السؤال
أريد تفسير هاتين الآيتين: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ـ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ـ وهل بهما وجه تناقض؟.
أريد تفسير هاتين الآيتين: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ـ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ـ وهل بهما وجه تناقض؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمعني الآية الأولى: أن الله تعالى ما خلق أمة من الأمم إلا وأرسل إليهم من يهديهم وينذرهم ويرشدهم إلى الحق، كما قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت {النحل: 36}.
وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما {النساء: 165}.
قال الإمام القرطبي: يقول سبحانه وما من أمة من الأمم الدائنة بملة إلا خلا فيها من قبلك نذير ينذرهم بأسنا على كفرهم بالله، كما حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: كل أمة كان لها رسول. اهـ.
وفي تفسير ابن كثير: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ـ أي: وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النذر وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: إنما أنت منذر ولكل قوم هاد {الرعد: 7} وكما قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة {الآية [النحل:136} والآيات في هذا كثيرة. اهـ.
وأما الآية الثانية: فقد حملها الجمهور على عقوبة الدنيا، وحملها بعضهم على العموم، وقد فصل في ذلك وجمع بينها وبين الآية السابقة ابن عطية في تفسيره، فقال: وقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ـ قالت فرقة هي الجمهور: هذا في حكم الدنيا، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار، وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا المعنى: أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة، ويؤيد هذا ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون، ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل، كقوله تعالى: كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى {الملك: 8ـ 9} وظاهر: كلما {الملك: 8} الحصر، وكقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير {فاطر: 24} وأما من جهة النظر: فإن بعثة آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار، وهذه الآية أيضا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. اهـ.
وجاء في تفسير ابن عطية أيضا: وقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ـ معناه أن دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته، لأن آدم بعث إلى بنيه ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي تتضمن أن قريشا لم يأتهم نذير، معناه نذير مباشر، وما ذكره المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم فإنما ذلك بالفرض لا أنه توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله. اهـ.
وفي فتح القدير للشوكاني: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ـ لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته والضال بضلاله، وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره، ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة. اهـ.
ومما يؤيد كون التعذيب مرادا به الدنيا ما ثبت في الحديث من عذر من لم تبلغه الدعوة، أو بلغته وهو غير مهيئ للتكليف بها، كما جاء في الحديث: أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما. رواه أحمد، وصححه الألباني.
ويمكن الجمع بين الحديث والآيتين بأن الأمم السابقة قد جاءتها النذر وأن أهل الفترة السابقين لعهد النبي صلى الله عليه وسلم كان هو نذيرهم ولم يأتهم نذير قبله، ويدل لهذا قوله تعالى: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك {القصص: 46}.
وقوله: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير{المائدة: 19}.
وقوله تعالى: وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير {سبأ: 44}.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: الله سبحانه لا يعاقب شرعا ولا قدرا إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره، كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {الإسراء: 15}. اهـ.
وقد سبق الكلام عن أهل الفترة وهم من لم تبلغهم الرسالة، ولو تصورنا فرضا أن شخصا في عصر ما عاش حياته ولم يسمع شيئا عن الإسلام، فإنه يعامل يوم القيامة معاملة أهل الفترة فيمتحن يوم القيامة، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 4723، 29368، 3191، 34736، 68324، 128140.
والله أعلم.