السؤال
عند قراءتنا للقرآن الكريم، نجد أن الله سبحانه وتعالى في أغلب الآيات، إن لم نقل كلها، قد قدم ذكر السماوات على الأرض، إلا في سورة طه، فنلاحظ أنه قدم ذكر الأرض عن السماوات في الآية الرابعة:"تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى"
فما الحكمة من ذلك؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فننبه أولا إلى أنه قد وجد ذكر الأرض قبل السماء في غير هذا الموضع.
وعلى أية حال، فقد جاء في بدائع الفوائد لابن القيم تعليل جميل لهذا التقديم قال: وأما تقديم السماء على الأرض: ففيه معنى، وهو أن السماوات والأرض تذكر غالبا في سياق آيات الرب الدالة على وحدانيته، وربوبيته. ومعلوم أن الآيات في السماوات أعظم منها في الأرض؛ لسعتها، وعظمها، وما فيها من كواكبها، وشمسها، وقمرها، وبروجها، وعلوها، واستغنائها عن عمد تقلها، أو علاقة ترفعها، إلى غير ذلك من عجائبها، وما فيها كقطرة في سعتها؛ ولهذا أمر سبحانه بأن يرجع الناظر فيها البصر كرة بعد كرة، ويتأمل استواءها، واتساقها، وبراءتها من الخلل، والفطور. فالآية فيها أعظم من الأرض، وفي كل شيء له آية سبحانه وبحمده.
وأما تقديم الأرض عليها في قوله: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} وتأخيرها عنها في سبأ، فتأمل كيف وقع هذا الترتيب في سبأ في ضمن قول الكفار: {لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض}. كيف قدم السماوات هنا؛ لأن الساعة إنما تأتي من قبلها، وهي غيب فيها، ومن جهتها تبتدئ، وتنشأ؛ ولهذا قدم صعق أهل السماوات على أهل الأرض عندها، فقال تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض}.
وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونس: فإنه لما كان السياق سياق تحذير، وتهديد للبشر، وإعلامهم أنه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقها وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيء، اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء، فتبارك من أودع كلامه من الحكم، والأسرار، والعلوم ما يشهد أنه كلام الله تعالى، وأن مخلوقا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الحكم أبدا. اهـ.
وفي خصوص موضع طه، فلعل التقديم فيه لمراعاة الفواصل كما قال الكناني في كتابه: كشف المعاني في المتشابه من المثاني.
والله أعلم.