الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالإسلام دين الحكمة، والتفكر، والتأمل، ولكنه يضبط هذه الفضائل، ويضعها في محلها اللائق بها، والعقل المحكم إن كان يمنع صاحبه من التفكر فيما لا ينفعه، فهو كذلك يمنعه من التفكر فيما لا يطيقه!! وأبين مثال على ذلك: التفكر في الغيب المطلق، والحكم عليه بعقولنا المحدودة القاصرة، إذ كيف يطلق العاقل لنفسه عنان الفكر في مجال ليس له فيه مدخل؟! ومثل من يفعل ذلك، كمثل الذي يريد أن يستعمل بدنه، وأعضاءه فيما لا قدرة، ولا طاقة له عليه.
ولا ينبغي أن يحملنا التشوق للمعرفة، ولا التشوف للغيب، على التفكر في ما لا ندركه، ولا يمكننا معرفته. والله تبارك وتعالى رحمنا، فعرفنا بنفسه، وأخبرنا عن أسمائه، وصفاته، وأفعاله بالقدر الذي يطيقه عقلنا البشري، فلا يسوغ أن ننتقل عن هذا المتاح إلى غيره من غير المتاح، ولنا في قصة نبي الله، وكليمه موسى عليه السلام، المثل الواضح في هذا المعنى، فإنه لما حظي بنعمة سماع كلام الله تعالى، تطلع إلى رؤيته، وهذا ما لا قدرة له عليه، قال الله عز وجل: ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين [الأعراف: 143].
وهكذا معرفة كنه صفات الله تعالى، وكيفية اتصافه بها على الحقيقة، لا يمكننا معرفتها، ولا تدركها عقولنا، فكان من الضيعة، وضعف الرأي أن نتفكر في ذلك.
قال الشيخ ابن عثيمين في (تقريب التدمرية): وأما كون ما أخبرنا الله به عن نفسه مجهولا لنا من جهة الكيفية، فثابت بدلالة السمع، والعقل.
فأما دلالة السمع فمن وجهين:
الأول: قوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} [البقرة: 255] ؛ فإن نفي الإحاطة علما، شامل للإحاطة بذاته، وصفاته، فلا يعلم حقيقة ذاته وكنهها إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك صفاته.
الثاني: أن الله أخبرنا عن ذاته وصفاته، ولم يخبرنا عن كيفيتها، وعقولنا لا تدرك ذلك، فتكون الكيفية مجهولة لنا، لا يحل لنا أن نتكلم فيها، أو نقدرها بأذهاننا؛ لقوله تعلى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء:36] وقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف:33].
وأما دلالة العقل على ذلك: فلأن الشيء لا تدرك كيفيته إلا بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره المساوي له، أو الخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية ذات الله تعالى، وصفاته، فتكون كيفية ذات الله، وصفاته مجهولة لنا.
وأيضا فإننا نقول: ما هي الكيفية التي تقدرها لذات الله تعالى، وصفاته؟! إن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك، فالله أعظم، وأجل من ذلك، وإن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك، فستكون كاذبا فيها؛ لأنه ليس لك دليل عليها. اهـ.
وقال أيضا: التشابه الواقع في القرآن نوعان: حقيقي، ونسبي، فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا-وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار-لا نعلم حقائقها، وكنهها، كما قال الله تعالى عن نفسه: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} [طه: 110].
وقال: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]. وقال عما في اليوم الآخر: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وفي الحديث القدسي، الثابت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير ... ونحو ذلك. ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات، ليس مماثلا في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله.
كما نعلم أن في الجنة لحما، ولبنا، وعسلا، وماء، وخمرا ... ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنس ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى. والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب، أعظم مما يعلم في الشاهد. وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله، لا يسأل عنه؛ لتعذر الوصول إليه. اهـ. وقد قال الله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } [النحل: 74]. وقال سبحانه: {رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65]. قال السعدي: أي: هل تعلم لله مساميا، ومشابها، ومماثلا من المخلوقين. وهذا استفهام بمعنى النفي، المعلوم بالعقل. أي: لا تعلم له مساميا، ولا مشابها. اهـ.
وبهذا يظهر خطأ صاحبك، وضلاله عن الحق، وجرأته على الباطل، ولا سيما في قوله المنكر: (تبا لدين لا يجيب مثل هذا السؤال)، فإنه إن كان يعني بذلك: دين الإسلام، الذي بعث به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد وقع في الكفرـ والعياذ بالله-بسبه وانتقاصه لدين الله تعالى. وإن كان يعتقد أن الإسلام قد أجاب على مثل هذا السؤال، فقد أخطأ خطأ بينا، وقال على الله ما ليس له به علم، وقد قال الله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33]، وقال: إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون. قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [يونس: 68، 69].
وراجع للفائدة الفتويين: 254368، 50216.
والله أعلم.