لا خير للإنسان في التفكر فيما لا يطيقه عقله

0 251

السؤال

ناقشت أحدهم، يقول: "السؤال عنها ‏بدعة" عبارة لطالما استحمرنا بها ‏شيوخنا.‏
قلت له: قول النبي صلى الله عليه ‏وسلم، لمن قال من خلق كذا. إلى ‏آخره، وقول مالك بن أنس عن: الرحمن ‏على العرش استوى.‏
المهم من كلامه يقول بعد النقاش: ‏تبا لدين لا يجيب عن مثل هذا السؤال.‏
هو مسلم، لكن يعتبر نفسه مسلما ‏مفكرا، يحق له أن يسأل: من خلق ‏الله؟ وكيف مظهر يديه، وكيف ‏وجهه؟ فقلت له: إسلامك، وإسلامنا هكذا، لا ‏يجيب عن هذا إلا بـ [بدعة]‏ أو استغفر وانته.‏ فهل أصابه شيء من الشرك؟ ‏وما موقفكم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على ‏رسول الله وعلى آله، وصحبه، أما ‏بعد:‏

فالإسلام دين الحكمة، والتفكر، ‏والتأمل، ولكنه يضبط هذه الفضائل، ‏ويضعها في محلها اللائق بها، ‏والعقل المحكم إن كان يمنع صاحبه ‏من التفكر فيما لا ينفعه، فهو كذلك ‏يمنعه من التفكر فيما لا يطيقه!! ‏وأبين مثال على ذلك: التفكر في ‏الغيب المطلق، والحكم عليه بعقولنا ‏المحدودة القاصرة، إذ كيف يطلق ‏العاقل لنفسه عنان الفكر في مجال ‏ليس له فيه مدخل؟! ومثل من يفعل ‏ذلك، كمثل الذي يريد أن يستعمل ‏بدنه، وأعضاءه فيما لا قدرة، ولا ‏طاقة له عليه.

ولا ينبغي أن يحملنا ‏التشوق للمعرفة، ولا التشوف ‏للغيب، على التفكر في ما لا ندركه، ‏ولا يمكننا معرفته. والله تبارك وتعالى رحمنا، فعرفنا ‏بنفسه، وأخبرنا عن أسمائه، ‏وصفاته، وأفعاله بالقدر الذي يطيقه ‏عقلنا البشري، فلا يسوغ أن ننتقل ‏عن هذا المتاح إلى غيره من غير ‏المتاح، ولنا في قصة نبي الله، ‏وكليمه موسى عليه السلام، المثل ‏الواضح في هذا المعنى، فإنه لما ‏حظي بنعمة سماع كلام الله تعالى، ‏تطلع إلى رؤيته، وهذا ما لا قدرة له ‏عليه، قال الله عز وجل: ولما جاء ‏موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ‏أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن ‏انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ‏فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل ‏جعله دكا وخر موسى صعقا فلما ‏أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول ‏المؤمنين [الأعراف: 143].

وهكذا معرفة كنه صفات الله تعالى، ‏وكيفية اتصافه بها على الحقيقة، لا ‏يمكننا معرفتها، ولا تدركها عقولنا، ‏فكان من الضيعة، وضعف الرأي أن ‏نتفكر في ذلك.‏

قال الشيخ ابن عثيمين في (تقريب ‏التدمرية): وأما كون ما أخبرنا الله ‏به عن نفسه مجهولا لنا من جهة ‏الكيفية، فثابت بدلالة السمع، والعقل.

‏فأما دلالة السمع فمن وجهين:

الأول: قوله تعالى: {يعلم ما بين ‏أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به ‏علما} [البقرة: 255] ؛ فإن نفي ‏الإحاطة علما، شامل للإحاطة بذاته، ‏وصفاته، فلا يعلم حقيقة ذاته وكنهها ‏إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك ‏صفاته.

الثاني: أن الله أخبرنا عن ذاته ‏وصفاته، ولم يخبرنا عن كيفيتها، ‏وعقولنا لا تدرك ذلك، فتكون الكيفية ‏مجهولة لنا، لا يحل لنا أن نتكلم ‏فيها، أو نقدرها بأذهاننا؛ لقوله ‏تعلى: {ولا تقف ما ليس لك به علم ‏إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك ‏كان عنه مسؤولا} [الإسراء:36] ‏وقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ‏ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ‏بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ‏ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ‏ما لا تعلمون} [الأعراف:33].

وأما دلالة العقل على ذلك: فلأن ‏الشيء لا تدرك كيفيته إلا بمشاهدته، ‏أو بمشاهدة نظيره المساوي له، أو ‏الخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق ‏منتفية في كيفية ذات الله تعالى، ‏وصفاته، فتكون كيفية ذات الله، ‏وصفاته مجهولة لنا.

وأيضا فإننا ‏نقول: ما هي الكيفية التي تقدرها ‏لذات الله تعالى، وصفاته؟! إن أي ‏كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها ‏بلسانك، فالله أعظم، وأجل من ذلك، ‏وإن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو ‏تنطق بها بلسانك، فستكون كاذبا ‏فيها؛ لأنه ليس لك دليل عليها. اهـ.

وقال أيضا: التشابه الواقع في ‏القرآن نوعان: حقيقي، ونسبي، ‏فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز ‏وجل مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن ‏نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا-وإن كنا ‏نعلم معاني تلك الأخبار-لا نعلم ‏حقائقها، وكنهها، كما قال الله تعالى ‏عن نفسه: {يعلم ما بين أيديهم وما ‏خلفهم ولا يحيطون به علما} [طه: ‏‏110].

وقال: {لا تدركه الأبصار ‏وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]. ‏وقال عما في اليوم الآخر: {فلا تعلم ‏نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ‏جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: ‏‏17]. وفي الحديث القدسي، الثابت ‏في الصحيحين، عن النبي صلى الله ‏عليه وسلم أن الله قال: "أعددت ‏لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ‏ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب ‏بشر". فما أخبر الله به عن نفسه، ‏وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ ‏متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في ‏الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، ‏عليم، قدير، سميع، بصير ... ونحو ‏ذلك. ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه ‏الأسماء من الصفات، ليس مماثلا ‏في الحقيقة لما للمخلوق منها، ‏فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله.

كما ‏نعلم أن في الجنة لحما، ولبنا، ‏وعسلا، وماء، وخمرا ... ونحو ‏ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من ‏جنس ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم ‏حقيقتها إلا الله تعالى. والإخبار عن ‏الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه ‏بالأسماء المعلومة معانيها في ‏الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب ‏بواسطة العلم بما في الشاهد، مع ‏العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر ‏الله به من الغيب، أعظم مما يعلم في ‏الشاهد. وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا ‏الله، لا يسأل عنه؛ لتعذر الوصول ‏إليه. اهـ. وقد قال الله تعالى: {فلا تضربوا لله ‏الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } ‏‏[النحل: 74]. وقال سبحانه: {رب ‏السماوات والأرض وما بينهما ‏فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له ‏سميا} [مريم: 65].‏ ‏ قال السعدي: أي: هل تعلم لله ‏مساميا، ومشابها، ومماثلا من ‏المخلوقين. وهذا استفهام بمعنى ‏النفي، المعلوم بالعقل. أي: لا تعلم له ‏مساميا، ولا مشابها. اهـ.

وبهذا يظهر خطأ صاحبك، وضلاله ‏عن الحق، وجرأته على الباطل، ولا ‏سيما في قوله المنكر: (تبا لدين لا ‏يجيب مثل هذا السؤال)، فإنه إن كان ‏يعني بذلك: دين الإسلام، الذي بعث ‏به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ‏فقد وقع في الكفرـ والعياذ بالله-بسبه ‏وانتقاصه لدين الله تعالى. وإن كان ‏يعتقد أن الإسلام قد أجاب على مثل ‏هذا السؤال، فقد أخطأ خطأ بينا، ‏وقال على الله ما ليس له به علم، ‏وقد قال الله تعالى: قل إنما حرم ‏ربي الفواحش ما ظهر منها وما ‏بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن ‏تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ‏‏[الأعراف: 33]، وقال: إن عندكم من ‏سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا ‏تعلمون. قل إن الذين يفترون على ‏الله الكذب لا يفلحون [يونس: 68، ‏‏69].

وراجع للفائدة الفتويين: ‏‏254368، 50216.‏

والله أعلم.‏

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة