السؤال
فضيلة المشائخ، قد ثبت بنص القرآن العظيم، بقول الله سبحانه وتعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وجود صرع الجن. وسفهاء الأحلام، إما أن ينكروه أو يصفونه بالمجاز. مع أن التمسك بالتفسير للحوادث، والموجودات بالمكتشفات الحديثة، والقطع بوجود الماديات دون غيرها يخالف العلم الحديث، وينم عن الجهل، بعد أن ثبت نظريا بالحسابات الفيزيائية، وجود أحد عشر بعدا لا يعرف العلم عنها سوى التصور. وما كانت هذه الأفكار إلا ضربا من الهذيان في سبعينيات القرن العشرين. كذلك الكثير من النظريات، والإثباتات العلمية. لذلك فأنا أطلب منكم النصوص الصحيحة، الثابتة من كل ما وسعكم جمعه. وإن كان معالجة صرع الجن بالضرب، والضرب يقع على الجني ثابت بنص نبوي، أو هو من فتاوى العلماء. وأنتم تعلمون أن الفقه علم وظن، وإذا حكم الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر. وأنا لا أستطيع سوى التصور الظني للغيبيات. حتى تخرج من نطاق الغيب إلى الإثبات القاطع. لكن لا نكون من الذين (قد كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) لذلك، ولحاجتي للاعتماد على تصور صحيح، ونبذ ما لم يثبت بالنصوص في هذه المسألة. أحتاج إلى الإلمام بما ثبت فيها شرعا.
فأفتوني وفقكم الله.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن دخول الجني في بدن الإنسان، وصرعهم له، ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة؛ وقد قال الله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس {البقرة:275}. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنها- أنه قال لعطاء: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قال: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: إن شئت صبرت، ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، قالت: أصبر. قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها. إلى غير ذلك من الأدلة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا: وجود الجن ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله، واتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان، ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواما يقولون: إن الجني لا يدخل بدن المصروع، فقال: يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسانه. وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل، فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما، والمصروع مع ذلك لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع، وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجر غير ذلك من الأمور، من شاهدها أفادته علما ضروريا، بأن الناطق على لسان الإنسي، والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان، وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك. انتهى.
وقال أيضا: ليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك. اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح، عند شرح حديث السوداء السابق: وقد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية، وإما لإيقاع الأذية به. والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء، ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته، ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية، لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها، وممن نص منهم على ذلك أبقراط، فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا... انتهى.
وقد ذكر ابن حجر أن ما أصاب هذه المرأة كان من صرع الجن، لا من صرع الخلط، واستدل بما أخرج البزار، وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيها بقصتها ولفظه: جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله، فقال: إن شئت دعوت الله، فشفاك، وإن شئت صبرت، ولا حساب عليك، قالت: بل أصبر، ولا حساب علي. اهـ.
وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة عن أصول الديانة: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافعة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن السادة -الصحابة والتابعين وأئمة الحديث- ونحن بذلك معتصمون. وجملة قولنا: أنا نقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله... إلى أن قال: وأن الشيطان يوسوس الإنسان، ويشككه، ويخبطه، خلافا للمعتزلة، والجهمية؛ كما قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. وكما قال: من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة، والناس. اهـ.
وأما عن الضرب فقد قال ابن القيم ـرحمه الله- في زاد المعاد: شاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه، ويقول قال لك الشيخ اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب، فيفيق المصروع، ولا يحس بألم. وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا. انتهى.
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: قد يحتاج في إبراء المصروع إلى الضرب، فيضرب ضربا كثيرا جدا، والضرب إنما يقع على الجني، ولا يحس به المصروع حتى يفيق المصروع، ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ويكون قد ضرب بعصا قوية نحو ثلاثمائة، أو أربعمائة ضربة، كما قد فعلنا نحن هذا، وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين. انتهى.
ومما جاء في هذا عن النبي صلي الله عليه وسلم ما ثبت في سنن ابن ماجه، من حديث عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله؛ عرض لي شيء في صلواتي، حتى ما أدري ما أصلي، قال: ذاك الشيطان، ادنه، فدنوت منه فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو الله، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك، فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد. والحديث صححه الألباني.
وعن عثمان بن بشر، قال: سمعت عثمان بن أبي العاص، يقول: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيان القرآن، فضرب صدري بيده فقال: يا شيطان اخرج من صدر عثمان قال عثمان: فما نسيت منه شيئا بعد أحببت أن أذكره رواه الطبراني، وصححه الألباني في الصحيحة.
وجاء في كتاب: عالم الجن والشياطين للعلامة الدكتور عمر سليمان الأشقر: روي أن الإمام أحمد كان جالسا في مسجده، إذ جاءه صاحب له من قبل الخليفة المتوكل، فقال: إن في بيت أمير المؤمنين جارية بها صرع، وقد أرسلني إليك، لتدعو الله لها بالعافية. فأعطاه الإمام نعلين من الخشب، وقال: اذهب إلى دار أمير المؤمنين، واجلس عند رأس الجارية، وقل للجني: قال لك أحمد: أيما أحب إليك: تخرج من هذه الجارية، أو تصفع بهذا النعل سبعين؟ فذهب الرجل ومعه النعل إلى الجارية، وجلس عند رأسها، وقال كما قال له الإمام أحمد. فقال المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة لأحمد، لو أمرنا أن نخرج من العراق لخرجنا منه، إنه أطاع الله، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء، ثم خرج من الجارية، فهدأت، ورزقت أولادا. فلما مات الإمام، عاد لها المارد، فاستدعى لها الأمير صاحبا من أصحاب أحمد، فحضر، ومعه ذلك النعل، وقال للمارد: أخرج وإلا ضربتك بهذا النعل. فقال المارد: لا أطيعك، ولا أخرج، أما أحمد بن حنبل، فقد أطاع الله فأمرنا بطاعته. اهـ.
والله أعلم.