السؤال
انتشر في هذه الفترة تحد يسمى (تحدي الثلج)؛ يقوم الشخص بملء الوعاء بالثلج والماء، ثم يقوم بسكبه على نفسه من فوق رأسه، ثم يقول: أتحدى فلانا وفلانا. ثم يقوم الأشخاص الذين تحداهم بفعل هذا التحدي، ومن ثم يتحدون أشخاصا آخرين. ما قولكم في هذا؟
انتشر في هذه الفترة تحد يسمى (تحدي الثلج)؛ يقوم الشخص بملء الوعاء بالثلج والماء، ثم يقوم بسكبه على نفسه من فوق رأسه، ثم يقول: أتحدى فلانا وفلانا. ثم يقوم الأشخاص الذين تحداهم بفعل هذا التحدي، ومن ثم يتحدون أشخاصا آخرين. ما قولكم في هذا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الذي انتشر بين الشباب، ويعرف بـ (تحدي دلو الثلج) هو: ظاهرة سيئة دخيلة على المسلمين، ليست من فعل العقلاء، وأصلها: حملة أسسها أناس من الغرب؛ ليحملوا الناس على أن يلتزموا أحد أمرين: فإما أن تتبرع لحملتنا لصالح مرضى التصلب العضلي الجانبي، وإما أن تسكب على نفسك ماء شديد البرودة، لتشعر بشعورهم، وتحس بمعاناتهم.
وقد استوردها كثير من الشباب المسلمين جريا وراء كل محدث، ولهثا وراء كل جديد من عندهم، مصداقا لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟. رواه البخاري.
وفي رواية في الصحيحين: لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم.
قال ابن حجر في الفتح: والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لتبعوهم. اهـ.
ولا شك أن هذا ابتداع، واتباع رديء، يتنافى مع ما جاءت به الشريعة، من وجوه:
- أولا: أن الشريعة جاءت بمواساة الفقراء بالمال دون أن تأمر الأغنياء بالعدم والفقر ليشاركوهم فيه، وجاءت بمواساة المرضى بالعيادة، والدعاء، والعلاج، دون أن تأمر بإمراض النفس، أو التمارض لمشاركتهم فيما هم فيه، ولا أمرت أن يضرب نفسه ليشعر بأخيه المضروب، ولا جعلت ذلك وسيلة للعيادة أو بذل المال للمكلوم، بل هو سفه ونقص عقل، لا هو من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا من هدي الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، ولا من سمتهم، ولو كان ذلك خيرا محضا أو راجحا لما سبق إليه النصارى شريعة الله -جل وعلا-، قال تعالى: وما كان ربك نسيا {مريم:64}، وقال: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون {المائدة:50}، وقال: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا {المائدة:3}.
- ثانيا: أن الله -جل وعلا- حث على التصدق بطيب نفس دون أن يحمل على ذلك أمر غير ابتغاء وجه الله تعالى، ومدح فاعل ذلك، كما قال تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا {الإنسان:8، 9}. قال الشافعي -رحمه الله-: وقد حمد الله جل ثناؤه على إعطاء المال والطعام في وجوه الخير، وأمر بهما، وذكر عدة آيات في الإنفاق منها، قال تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم {آل عمران:92}.اهـ.
وقد ذم الله المنافقين الذين ينفقون لأجل الناس وهم كارهون ، فقال في المنافقين: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون {التوبة:54}. قال الشيخ ابن سعدي: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون}: من غير انشراح صدر، وثبات نفس، ففي هذا غاية الذم لمن فعل مثل فعلهم، وأنه ينبغي للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيط البدن والقلب إليها، ولا ينفق إلا وهو منشرح الصدر ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من الله وحده، ولا يتشبه بالمنافقين. انتهى.
ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النذر، وقال: وإنما يستخرج به من البخيل . متفق عليه. قال المازري: يحتمل أن يكون سبب النهي عن كون النذر يصير ملتزما له فيأتي به تكلفا بغير نشاط. وقال النووي: معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ، وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره. اهـ
وهذه الظاهرة فيها شبه من هذا؛ لما فيه من التزام التصدق لهم إن خاف أن يسكب على رأسه الماء وخسر الرهان، مع ما فيه من أخذ المال بغير الرضى التام، بل بسيف الحياء. وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس. ورجاله رجال الصحيح.
وكذلك ذم الله -جل وعلا- المنفقين رياء وسمعة من أجل الناس، فقال: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الآية {النساء:38}.
وروى أبو داود وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما-:أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل. قال العلامة القاري في (شرح الشفا): المتباريين: أي: المتسابقين المتعارضين بفعلهما ليغلب أحدهما الآخر في صنيعهما، وإنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء، أو لاشتمالهما على عدم الرضى لإعطائهما بسيف الحياء. اهـ.
وكل هذه الأمور -أو معظمها- توجد في هذا الرهان الذي ابتدعه النصارى.
- ثالثا: في حال اختيار الثلج، فإن في هذا الفعل -مع ما فيه من السفه وقلة العقل-إضرارا بالنفس أو إلقاء بها إلى التهلكة، وقد ذكر بعض أطباء القلب من أهل الاختصاص أن سكب الماء المثلج على الجسم فجأة يسبب إجهادا للقلب، قد يؤدي إلى التجلط.
ولا شك في أن مثل هذا لا يكون وسيلة مشروعة لعمل البر، ولا مصلحة راجحة فيه تتعين به. وقد روى أبو داود، وأحمد، وغيرهما، عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح. فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا عمرو: صليت بأصحابك وأنت جنب؟! فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل شيئا.
فهذا إن كان أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- عذرا مسقطا لفرض الغسل إلى بدله؛ لإفضائه إلى تهلكة النفس وتلفها، فكيف يكون وسيلة مشروعة لمن أراد أن يواسي غيره، ويتصدق عليه؟!
وقد جمع الله -جل وعلا- ما ذكرناه من النهي عما يتضمنه هذا التحدي المستورد من سفهاء الغرب، في كتابه العزيز، في قوله تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين {البقرة:195}، وفي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما {النساء:29}، فجمع فيهما بين الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وأخذ المال عن رضى تام لا يشوبه شيء، وبين النهي عن قتل النفس وإلقائها إلى التهلكة.
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا {النساء:125}.
والله أعلم.