السؤال
أنا مسلم مقلد، وإسلامي تقليدي، متتلمذ على المدارس الغربية، ومناهجها التي تفوقوا بها علينا، وألبس اللباس الإفرنجي، فصحوت وصرت أبحث عن الاقتناع بسائر مسائل الدين والدنيا من جهة الشرع. وعند بحثي في مسألة السدل والقبض في الصلاة، وجدت عديدا من الأقوال المتضاربة، يصل بعضها إلى التعصب. وكم كان أسفي على كتاب يبحث في الموضوع وجدته ناقصا؛ إذ أنه رث، ومطبوع منذ قرابة القرن، وهو بحث في مسألة القبض والسدل، قام به الشيخ الزيتوني محمد المكي بن عزوز القاضي الشرعي، الذي نفاه المستعمر عندما حكم بالعدل ضد فرنسي. ولقد وجدت في الإنترنت مقالة لمجهول في انتسابه للعلم، يقول فيها ما معناه:"إن الأمر يفيد في اللغة الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، وكذلك السنة المطهرة الفعلية، والقولية، والإقرارية، مؤكدا على أن الإقرار أصح من التقرير. ومتى ثبت فعل رسول الله -صلـى الله عليه وسلم- القبض، فلا يوجد دليل على أنه واظب عليه بفعله في جميع الصلوات دون استثناء، وكذلك فإن العلماء من هذا الثبوت يستنبطون حكم القبض وجوبا، أو ندبا، أو إباحة، وحيث كان الندب أيسر من الوجوب، والإباحة -أيسر من كليهما-، فيكون من اجتهد من العلماء، واستنبط الإباحة في القبض والسدل باجتهاد غير مردود أصوليا، كجمهور المالكية، كان هو المطبق للسنة في اليسر. فالمسدل أكثر تطبيقا للسنة من أجل عدم التشدد باتباعه اليسر لحديث: ما خير رسول الله -صلـى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثما" انتهى. فما مدى صحة هذه المقولة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة من مسائل الاجتهاد، والصلاة صحيحة، سواء قبض المصلي يديه أم أرسلهما، فإن القبض على القول به -وهو قول الجمهور، وهو الصواب- يعد من سنن الصلاة، لا من واجباتها.
بيد أن ما ذكرته من التقرير خطأ بلا شك، وهو يستلزم نفي سنية كل ما ثبت فعله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بحجة أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا لا يقول به عالم، بل الصواب: أن يدور المسلم مع النصوص حيث دارت، فما ثبت فعله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يثبت ضده، كالقبض، فهو سنة بلا شك، فعن وائل بن حجر -رضي الله عنه- أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة وكبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه، ثم رفعهما وكبر فركع، فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه. رواه أحمد، ومسلم، وفي رواية لأحمد، وأبي داود: ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد. وعن أبي حازم عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: ولا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه أحمد، والبخاري. وعن ابن مسعود: أنه كان يصلي، فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وقال ابن عبد البر -وهو من كبار فقهاء المالكية-: لم يأت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه -يعني في وضع اليمين على الشمال- خلاف. ذكره الحافظ عنه، ومما احتج به القائلون بعدم المشروعية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم المسيء صلاته الصلاة، ولم يذكر وضع اليمين على الشمال، كذا حكاه ابن سيد الناس عنهم. قال الشوكاني: وهو عجيب، فإن النزاع في استحباب الوضع لا وجوبه، وترك ذكره في حديث المسيء إنما يكون حجة عن القائل بالوجوب، وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على ذكر الفرائض في حديث المسيء. انتهى.
والحاصل: أن الناظر بإنصاف في هذه المسألة، يتبين له أنه لا ريب في مشروعية وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وفي هذه السنة -كما قال الشوكاني- عشرون حديثا عن ثمانية عشرة من الصحابة، واثنان من التابعين، ومن العجب: أن يعارض هذا كله بمثل حديث: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وهذا الحديث ليس له تعلق بالمسألة لا من قريب ولا من بعيد أصلا، وقد كانوا يؤمرون بهذه السنة كما مر بك في حديث سهل بن سعد، وحسبنا في رد هذا الكلام السقيم غير المبني على أساس علمي رصين أن قائله -كما ذكرت- مجهول في نسبته إلى العلم، والكلام في القواعد الأصولية التي تضمنها هذا الكلام كالكلام على ما يفيده الأمر، وعلى أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونحو ذلك، مما يحتمل بسطا لا تتسع له هذه الفتوى، واضطراب هذا الكلام المنقول وتهافته أوضح من أن نطول في رده.
والله أعلم.