تفسير: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

0 347

السؤال

في قوله تعالى: (كن فيكون) يرد على الذهن سؤال وهو: إذا كان الشيء موجودا فكيف يقول له كن؟ وهو كائن من قبل، وإذا لم يكن موجودا وليس بكائن الساعة فمن المخاطب في قوله كن، وشكرا لكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى عن مثل هذا السؤال، ونحن نذكر لك السؤال وجوابه ففيه الكفاية بإذن الله: فقد سئل عن قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} فإن كان المخاطب موجودا فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ فأجاب رحمه الله: بأن هذه المسألة ( مبنية على أصلين: أحدهما: الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب، بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرة وإرادة، وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده؟ ولا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده، وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي أو هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة؟ والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة. والأصل الثاني: أن المعدوم في حال عدمه هل هو شيء أم لا؟ ... والذي عليه جماهير الناس وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين، وأنه ليس في الخارج شيئان: أحدهما حقيقة، والآخر وجوده الزائد على حقيقته، فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات، فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدو له سبحانه وتعالى ... وقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}، ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه، وبذلك كان مقدرا مقضيا، فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو: أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض، وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة، إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوما مخبرا عنه مكتوبا فيه شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتا في الخارج بل هو عدم محض ونفي صرف ... وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت به القدرة وخلق وكون؛ كما قال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} فالذي يقال له: كن هو الذي يراد وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم، فإن قول السائل: (إن كان المخاطب موجودا فتحصيل الحاصل محال)، يقال له: هذا إذا كان موجودا في الخارج وجوده الذي هو وجوده ولا ريب أن المعدوم ليس موجودا ولا هو في نفسه ثابت، وأما ما علم وأريد وكان شيئا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالا؛ بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة، وقول السائل: (إن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم) يقال له: أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال؛ إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، وكذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون، وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه فليس ذلك محالا بل هو أمر ممكن بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته فإن كان قادرا على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزا لم يحصل، وقد يقول الإنسان ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله سبحانه على كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. انتهى.
فخلاصة ما ذكره شيخ الإسلام أن الخطاب نوعان: خطاب تكليف وخطاب تكوين، وأن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون هو من خطاب التكوين لا من خطاب التكليف.

وأن الموجود في الخارج ليس موجها له الخطاب، وكذلك المعدم في الخارج الذي لم يتعلق به علم ولا إرادة لإيجاده، ليس موجها له الخطاب.
وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب الذي قدر وجوده، فهذا الذي يوجه إليه خطاب التكوين فيقال له: كن حين يراد أن يكون.
وقد لخص هذا المعنى البغوي ـ رحمه الله ـ في تفسيره فقال: فإن قيل: كيف قال {فإنما يقول له كن فيكون} والمعدوم لا يخاطب، قال ابن الأنباري: معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب، وقيل: هو وإن كان معدوما ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات