السؤال
سؤالي عن وجوب القسم على الرسول بين زوجاته؛ لأني قرأت في تفسير آية: (ترجي من تشاء.. ) أنها تشمل زوجاته لحديث عائشة: (كان رسول الله يستأذن في يوم المرأة منا بعد نزول هذه الآية..) لم فإنه فيم يستأذن؟ المذهب لزوجة أخرى وأنا أعلم أن الرسول لم يترك القسم بين زوجاته إلا سودة، ولم يستأذن من عائشة في الذهاب لأخرى، وهي كانت أحب زوجاته إليه، فلم أفهم لم كان الاستئذان؟!
وفي تفسير: (والله يعلم ما في قلوبكم ..) أي: من الميل لبعضهن دون بعض. وهذا وارد في كل الرجال ممن يجمع أكثر من زوجة، فلم يجب عليهم القسم، وليس على الرسول، وهو المنزه، وأولى أن يؤمر بالعدل لكماله...
وبالنسبة لقول البعض أن آية: (لا يحل لك النساء من بعد..) نسخت بحديث عائشة: (ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء ) وقد كان الرسول متزوجا بأحدي عشرة، فلم يحل له النساء أكثر مع العلم أنه لم يتزوج أكثر، وهل كان الرسول يتزوج من أجل الجمال؟ لأني قرأت أن هذا من أسباب زواج صفية وأميمة بنت شراحيل، وأنا أعلم أن الرسول لم يكن شهوانيا -كما يدعي البعض-، فيكف يتزوج لمجرد سماعه عن جمال امرأة، مثل حالة صفية أو أميمة التي لم يكن رآها؟ فقد كان هذا الزواج بمثابة زواج للشهوة فقط مع أن الرسول كان متزوجا كثيرا بالفعل...
وأميمة لم أفهم كيف يتزوجها الرسول دون رضاها أصلا! وهو الذي علمنا أن هذا لا يجوز، ولكن الحديث لا يذكر أن المرأة رضيت، وكيف يقول لها: "هبي نفسك لي" في أحد الأحاديث؟ فالهبة تكون برغبة المرأة لا بالطلب، ولكن قرأت أحد التعليقات أن للرسول أن يتزوج المرأة دون إذنها، ولا إذن وليها، فهل يصح ذلك؟
المعذرة لكثرة الحديث، لكني قرأت كل هذا في الآونة الأخيرة، وخفت من الفتنة فأردت السؤال.
وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا بيان كلام أهل العلم في تفسير آية سورة الأحزاب: ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء...الآية {الأحزاب:51}، وذكرنا أن مما تفيده: أن القسم لا يجب عليه، وأنه مخير فيه من الله -سبحانه وتعالى-، وأنه مع هذا كان يقسم بين نسائه بالعدل.
واستئذانه زوجاته لا ينافي التخيير، ولكن هذا كان من كريم خلقه -صلى الله عليه وسلم- وحرصه على تطييب خواطرهن، فقد كانت كل واحدة منهن تتمنى أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معها؛ قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: هذه المنافسة فيه -صلى الله عليه وسلم- ليست لمجرد الاستمتاع، ولمطلق العشرة، وشهوات النفوس وحظوظها، التي تكون من بعض الناس؛ بل هي منافسة في أمور الآخرة، والقرب من سيد الأولين والآخرين، والرغبة فيه، وفي خدمته ومعاشرته، والاستفادة منه، وفي قضاء حقوقه وحوائجه، وتوقع نزول الرحمة والوحى عليه عندها، ونحو ذلك. اهـ.
والترخيص للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ترك القسم دون بقية أمته لا شك أن من ورائه حكمة، وقد أشار العلماء إلى بعضها، ومن ذلك: قول السعدي في تفسيره: وهذا أيضا من توسعة الله على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته... اهـ. فهو يشبه اختصاصه بأكثر من أربع نسوة دون سائر أمته. ولهذا قال الألوسي رادا على بعض المعترضين على مثل هذه الخصائص: لا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة والسلام، ومن سبر الأخبار علم أنه صلى الله عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته، وآثار الكمال الأول: تزوج ما فوق الأربع، والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة. وآثار الكمال الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب، وهو على غاية من القوة، وعدم الاكتراث بترك ذلك، وليس لأحد من الأنبياء -عليهم السلام- اجتماع هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه -عليه الصلاة والسلام-، ولتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضا، وهي: نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته؛ فإن النساء لا يكدن يحفظن سرا، وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن، فلو وقف نساؤه -عليه الصلاة والسلام- على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه، وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن. وكل سر جاوز الاثنين شاع ... وفي عدم إيجاب القسم عليه -عليه الصلاة والسلام- تأكيد لذلك، كما لا يخفى على المنصف. اهـ.
ويمكن أن يكون ذلك ابتلاء من الله لعباده ليعلم المؤمنين من غيرهم، فمن شأن المؤمن التسليم لأمر الله، سواء علم الحكمة أم جهلها، كما قال سبحانه: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا {الأحزاب:36}.
وآية: لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا {الأحزاب:52}: اختلف العلماء كثيرا في تفسيرها، وذكر القرطبي فيها سبعة أقوال، ومنها: النسخ الذي ورد في كلام عائشة -رضي الله عنها-. وحكمة إباحة كثرة نسائه قد بيناها في كلام الألوسي السابق.
ولا ريب في أن الأصل أن يتزوج الرجل المرأة لدينها، فإذا انضاف إلى ذلك جمالها وخلقها كان ذلك نعمة عظيمة قلما تحصل، وهذا هو الحاصل من زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمنا صفية بنت حيي -رضي الله عنها-؛ ففي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن أنس -رضي الله عنه- قال: قدمنا خيبر، فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل زوجها، وكانت عروسا، فاصطفاها النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه.
وليس في هذا طعن في شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا تنقص من جنابه النبوي الشريف؛ لأنه كغيره من البشر تعجبه الأشياء الحسنة، كما ثبت أنه كان يحب الحلوى والعسل والطيب.
وعليه؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- تزوج صفية -رضي الله عنها- لجمالها ولحكم أخرى مذكورة في غير هذا الحديث. وهكذا الحال بالنسبة لأميمة بنت شراحيل. وعندما قال لها: "هبي لي نفسك"، قالها لها وهي زوجة له أصلا، فقالها تطييبا لخاطرها؛ قال الصنعاني في سبل السلام: قالوا: فطلب الهبة دال على أنه لم يكن عقد بها، ويبعد ما قالوه قوله: ليضع يده. ورواية: فلما دخل عليها، فإن ذلك إنما يكون مع الزوجة. وأما قوله: "هبي لي نفسك": فإنه قال تطييبا لخاطرها، واستمالة لقلبها، ويؤيده ما سلف من رواية: أنها رغبت فيك. وقد روي اتفاقه مع أبيها على مقدار صداقها، وهذه وإن لم تكن صرائح في العقد بها إلا أنه أقرب الاحتمالين. اهـ. وهذا يدل على أنه لم يتزوجها بغير رضاها، مع أن من أهل العلم من ذكر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة وبغير إذن وليها... ذكر هذا ابن حجر في فتح الباري. وأورده بعضهم في خصائصه -صلى الله عليه وسلم-.
ونود أن ننبهك في الختام إلى الحذر من التعرض لشبهات الأعداء؛ فإن هذا مزلة أقدام، ومضلة أفهام لمن ليس له قدم راسخة في العلم. وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 125119، والفتوى رقم: 197735، وبدلا من ذلك اصرفي همتك واشغلي وقتك بطلب العلم الشرعي، ووسائله متوفرة في هذا الزمان من خلال الإنترنت وغيره، وفي موقعنا هذا محور "الصوتيات"، فيه كثير من الدروس العلمية المسجلة لكبار الشيوخ، كابن باز، وابن عثيمين، وغيرهما، نسأل الله أن ينفعك بها، وأن يعصمك من مضلات فتن الشبهات وفتن الشهوات.
والله أعلم.