الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي أن من أهم المعالم في تشريعات الإسلام الواقعية، وعلى هذا الأساس يتعامل فيما قد يحدث من مشاكل في إطار الأسرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مصلحة بقاء الأسرة واستقرارها هدف أسمى قد تفوت من أجله المصلحة الأدنى من أجل تحقيق المصلحة الأعلى، ثم اعلمي أيضا أن الرب تبارك وتعالى لا تصدر أحكامه إلا عن عدل وحكمة، ولذلك يجب التسليم المطلق لأحكامه، فإن هذا من مقتضيات الإيمان، قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {النساء:65}.
والتسليم لا يمنع التماس الحكمة ليزداد القلب يقينا على يقينه، هذا أولا.
ثانيا: ذكر أهل العلم أن المراد بالنشوز في حق الرجل أن تقل رغبته في المرأة لكبرها أو دمامتها أو نحوه، وتخشى المرأة أن يطلقها، فتسقط له بعض حقوقها حتى لا يطلقها، ففي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها: في هذه الآية: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير... الآية{النساء:128}. قالت: الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك.
قال القرطبي: قال علماؤنا: ومن هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة، بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء فهذا كله مباح. اهـ.
ومن هنا نعلم أن التنازل قد يقع من الرجل كما يقع من المرأة، وأن البذل في ذلك حسب ما يتفقان عليه، وهذا غاية الإنصاف للمرأة حيث تكون مختارة وراضية في كلا الحالتين، وفي هذا مصلحة لها أيضا، وإذا كان هذا لمصلحتها كان معقولا، لا ـ كما ذكرت ـ أنه لا يعقل.
ثالثا: إذا كرهت المرأة زوجها لكبره أو دمامته أو نحوه، وخشيت ألا تقيم حدود الله معه، فلها أن تخالعه، قال ابن قدامة رحمه الله: وجملة الأمر أن المرأة إذا كرهت زوجها، لخلقه، أو خلقه، أو دينه، أو كبره، أو ضعفه، أو نحو ذلك، وخشيت أن لا تؤدي حق الله تعالى في طاعته، جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه، لقول الله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به {البقرة: 229}.
والمرأة في هذا تلتمس مصلحتها، وهي هنا في الطلاق والفراق، ولو أن الزوج ارتضى تطليقها من غير أن يأخذ عوضا فهذا أمر طيب، ويدل على كريم خلقه، ولو شح بذلك وأبى إلا العوض، فله ذلك، ولا يقال إن هذا من عدم الوفاء، خاصة وأن الزوج إذا رغب بعد ذلك في الزواج من أخرى احتاج إلى مؤن الزواج، هذا مع العلم بأنه إذا كان الزوج هو من أضر بها مما دفعها إلى طلب الطلاق لم يجز له أخذ العوض.
رابعا: والنشوز في حق الزوج لا يختلف في معناه عن النشوز في حق الزوجة، فكلاهما مقتضاه تعالي أحدهما على الآخر، قال الطبري في تفسير الآية: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا {النساء:128}: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها يقول: علمت من زوجها: نشوزا ـ يعني: استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها، أثرة عليها وارتفاعا بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أسبابها: إما دمامتها وإما سنها وكبرها أو غير ذلك من أمورها: أو إعراضا ـ يعني: انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه: فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ـ يقول: فلا حرج عليهما. اهـ.
وقال القرطبي في تفسير قوله سبحانه: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا {النساء:34}. فالمعنى: أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج.
وإن كان المقصود الاختلاف فيما يترتب على النشوز، فإن الشرع قد جعل التأديب في نشوز الزوجة لكون القوامة لزوجها عليها، وهي قوامة تدبير وترتيب لأمور الحياة الزوجية، فهي مؤسسة تحتاج إلى من يديرها ويرعى مصالحها، ولمعرفة حكمة هذا التأديب راجعي الفتوى رقم: 233590.
وندب الشرع إلى الصلح إذا نشز الزوج مراعاة للمصلحة كما أسلفنا، ولو جعل ولاية التأديب بيد المرأة أيضا لفسدت الحياة، خاصة مع غلبة العاطفة على المرأة، وما ذكره فقهاء المالكية لا يعني أن الزوجة تؤدبه، وإنما يدل على أن لها أن تستخلص حقها منه برفع الأمر إلى القاضي الشرعي، وهذا لا إشكال فيه، فالزوج إذا كان ظالما لزوجته وجب ردعه عن الظلم.
والله أعلم.