الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبعد اطلاعنا على ملخص الرسالة المسماة: (بتذكرة صاحب مبارك)، والرسالة المسماة بالدر المكنون، وجدناهما رسالتين باطلتين، حشيتا بعقائد الكفر، والشرك، والضلال، وبالبدع، والخرافات، وبالجرأة الوقحة على رد أحاديث صريحة في تحريم البناء على القبور، وفيما يلي نبين لك بعض ما رود فيهما:
أولا: الأمور السبعة عشر المذكورة على أنها كرامات منسوبة لمن يدعى (غوث الزمان صاحب مبارك)، ليست بكرامات على الحقيقة، ولو صحت نسبتها إليه، وأنها صدرت منه؛ وذلك لأن الكرامة أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى على يد رجل صالح ولي لله عز وجل، ولا يكون الرجل صالحا وليا لله تعالى، إلا بشرطين هما: الإيمان، والتقوى؛ لقوله سبحانه وتعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون [يونس:62-63].
فمن كان مؤمنا تقيا، كان لله وليا، وهذا الرجل ليس بولي لله، بل هو ولي للشيطان؛ لأنه نسب إليه -كما ورد في السؤال- أمور كفرية، مثل ادعائه علم الغيب، وأنه يعلم ما في القلوب، واستعماله للسحر، كما ادعى أنه صير الحجر ذهبا، ونحو ذلك.
وللسائل، وغيره ممن يقرأ هذا الجواب: الاطلاع على كتاب قيم في بابه لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يسمى: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
وكيف يكون هذا الرجل وليا مع مخالفته لأصل الدين، وهو التوحيد، ومخالفته للشريعة، والسنة، ووقوعه في البدعة!؟
ولو صح أنه كان يصدر منه أمور خارقة للعادة، مثل الطيران في الهواء، وإنقاذ غريق استغاث به وهو بعيد، فأخرجه بكمه من الماء، ودعوته على صاحب مزرعة تنباك، فاحترق منزله، فإنما ذلك استدراج من الله تعالى له، ولأتباعه الذين يدعونه من دون الله، ويتوسلون به، ويدعون فيه علم الغيب، وإخباره لهم بعد وفاته، قال تعالى: قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [مريم:75]، وقال تعالى: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [الأعراف:182].
فليس كل ما يظهر من أي إنسان من خوارق العادات، يعد كرامة، فالعلماء بينوا أنه خوارق العادات خمسة أقسام:
- المعجزة، وتجري على أيدي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
- الكرامة، وتجري على يد الرجل الصالح المتقيد بالكتاب، والسنة.
- الاستدراج، وهو الخارق الذي يحدث وفقا لمراد الرجل الكافر، أو الفاسق، مثل: السحرة، ومدعي الولاية من المشركين، والقبوريين، ونحوهم.
- الإهانة، وهي الخارق الذي يجري على يد الكافر، أو الفاسق؛ بعكس مراده، كمن أمر السماء أن تمطر غيثا، فأمطرت حجارة، ومثل بصق مسيلمة الكذاب على عين رجل أعور، فعارت عينه الصحيحة.
- الإعانة (أو المعونة)، وهي الخارق الذي يجري على يد مستور الحال، الذي لا يعلم صلاحه، ولا عكسه.
واعلم أن من دعا الناس إلى عبادة نفسه، أو عبد من دون الله، وهو راض، فهو من رؤوس الطواغيت الخمسة، الذين ذكرهم العلامة ابن القيم -رحمه الله-، فيمتنع أن يكون وليا لله تعالى، فلا يعتبر بما يكون منه من خوارق العادات، ولا تسمى حينئذ كرامات.
ثانيا: أما تجويزه البناء على القبور، واتخاذ القباب عليها، فهو يدل على أن الرجل قبوري، ممن يعظم القبور، ويعتقد في الأموات الضر والنفع، وهذه مسألة طويلة الذيل.
ولا نعلم من جوز البناء على القبور، إلا أصحاب الأهواء، والبدع، وما نقله من بعض المصادر التاريخية -كالبداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء، وتهذيب تاريخ دمشق، والنجوم الزاهرة، ووفاء الوفاء، والمنتظم، وغيرها- مما يثبت أن الأبنية قد اتخذت على قبور بعض الأنبياء -عليهم السلام-، والصالحين، لا يدل ذلك على الجواز، فإن ذلك مجرد حكاية عن فعل أناس جهلة، ليسوا بمعصومين، كما حكى الله تعالى عن قوم أصحاب الكهف: قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا [الكهف:21].
ولم يفعل ذلك الأنبياء، ولم يأمروا به، وكذلك لم يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حجة في فعل من بعدهم، لا سيما وأن أهل العلم من التابعين، والأئمة المتبوعين، وغيرهم كانوا ينهون عن ذلك أشد النهي.
ونحيلك إلى كتاب جيد في هذا الموضوع للعلامة الألباني -رحمه الله-، عنوانه: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد.
ومما يؤكد قبورية هذا المفتري، اجتراؤه على الطعن في الأحاديث الناهية عن البناء على القبور وتجصيصها، وهي في الصحيحين، وتضعيفها في الرسالة المسماة (بالدر المكنون)، وملخص ما ورد في السؤال من العلل التي زعم أنها تضعف هذه الأحاديث، لم نجد فيه ما يصلح للنقد، الذي يستوجب الرد لهذه الأحاديث.
وفيما يلي نرد على هذا المفتري الأثيم الطاعن في السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بردين: أحدهما: مجمل، والآخر: مفصل:
فأما المجمل: فإن أحاديث الصحيحين، تلقتها الأمة بالقبول، ولم يطعن إلا في أحاديث يسيرة منها، انتقدها بعض الحافظ، كالدارقطني، ورد عليهم كثير من جهابذة الحديث، مثل: الحافظ ابن حجر العسقلاني في (هدى الساري مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري)، والإمام النووي في مقدمه لشرح صحيح مسلم، قال النووي في المقدمة المذكورة: اتفق العلماء -رحمهم الله- على أن أصح الكتب عدا القرآن العزيز الصحيحان: البخاري، ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول.
ونقل بعد ذلك قول ابن الصلاح في علوم الحديث: قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح -رحمه الله-: جميع ما حكم مسلم -رحمه الله- بصحته في هذا الكتاب، فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل به في نفس الأمر، وهكذا ما حكم به البخاري في صحته في كتابه؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع.
وكون الأحاديث التي في الصحيحين تفيد العلم اليقيني، الموجب للعلم لا الظن، هو ما حققه ابن الصلاح، ورجع إليه، وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، والبلقيني، والسيوطي، وغيرهم، بل هو مذهب السلف، وأهل الحديث قاطبة، كما حكى ذلك السيوطي في تدريب الراوي، خلافا لجمهور المتكلمين، والذين كان متقدموهم على قول أهل الحديث: من أن أحاديث الصحيحين، وغيرها مما صح، تفيد العلم، ولو ثبتت عن طريق الآحاد، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، واتفق علماء مصطلح الحديث في تقسيمهم للحديث الصحيح إلى مراتب، على أن أصح الأحاديث، وأعلاها مرتبة هي: ما اتفق عليها البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم، ثم ذكروا المراتب الأخرى، اللهم إلا من قدم مسلما على البخاري من المغاربة، وليس قولهم بسديد، كما حققه ابن الصلاح، وابن حجر، والنووي، والسيوطي، وابن كثير، وغيرهم.
ولذلك شنع العلماء على من تكلم في أحاديث الصحيحين، على قلة ما تكلم فيه، وشددوا عليه النكير، وصاحوا به من كل جانب، كما فعلوا بابن حزم في تضعيف حديث الملاهي عند البخاري، وانظر مقدمة ابن الصلاح، ومختصره لابن كثير، وألفية العراقي، وغيرها.
أما الرد المفصل، فهو أن يقال: الأحاديث التي ضعفها هذا المفتري الأثيم ببعض العلل، أحاديث بعضها في غاية الصحة، ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلومه، يعلم أن هذا المجترئ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له أدنى مسكة من علم، أو عقل، أو دين، وأن الحامل له على القول بتضعيفها إنما هو الهوى، والتعصب لما هو عليه من القبورية المقيتة؛ نصرا لعقيدته الباطلة.
فلو أنه بحث -لو كان من أهل البحث- حتى في الصحيحين أنفسهما، لوجد أن ما أدعاه عللا، لا يصلح أن يكون كذلك، وأكثر ما اتكأ عليه في تضعيفه هو عنعنة بعض الثقات المدلسين، مثل الأعمش، وأبي الزبير.
وإليك منهج أهل العلم في التعامل مع عنعنة المدلسين، وقولهم فيما عنعن من ذلك في الصحيحين، قال الإمام النووي في مقدمته لشرح صحيح مسلم: اعلم أن ما في الصحيحين من المدلسين بعن، ونحوها، فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثير منه في الصحيحين بالطريقين جميعا، فيذكر رواية المدلس بعن، ثم يذكرها بالسماع، ويقصد به هذا المعنى الذي ذكرته.
وقال في موضع آخر عند شرحه لحديث فيه عنعنة الأعمش: وقول الأعمش: عن سفيان، مع أن الأعمش مدلس، والمدلس إذا قال: (عن)، لا يحتج بحديثه، إلا أن يثبت سماعه من جهة أخرى، وقد قدمنا في الأصول، وفي شرح المقدمة أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن، فمحمول على ثبوت سماعهم من جهة أخرى. والله أعلم.
ومعلوم أيضا عند أهل العلم بالحديث أن البخاري، ومسلما، لا يخرجان حديثا لمن فيه كلام من جهة حفظه، وضبطه، كالذي يخطئ أحيانا، إلا في المتابعات، لا في الأصول.
فإذا تقرر ذلك؛ فلنتكلم على كل حديث من هذه الأحاديث الي انتقدها ذلك المفتري بلا حجة، ولا برهان، فنقول:
الحديث الأول: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور... متفق عليه عن علي. أخرجه البخاري برقم: 1737 و6258 و 6756 عن علي -رضي الله عنه-، ورقم: 1734 عن أنس -رضي الله عنه-.
وأخرجه مسلم برقم: 2433 و2774 عن علي -رضي الله عنه-، وبرقم: 2434 عن أبي هريرة، كما أخرجه أحمد أيضا برقم: 581، كلهم من طريق الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه-.
والإسناد الذي أشار إليه ذلك الجاهل المغرض هو قول البخاري -رحمه الله- برقم: 6258: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: قال علي -رضي الله عنه-: ما عندنا كتاب نقرؤه، إلا كتاب الله، غير هذه الصحيفة، قال: فأخرجها، فإذا هي أشياء من الجراحات، وأسنان الإبل، قال: وفيها: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف، ولا عدل، ومن ولي قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف، ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف، ولا عدل.
فهذا إسناد فيه عنعنة الأعمش، وهو مدلس، ولكنه جاء في البخاري نفسه مصرحا فيه بالتحديث، برقم: 6756، قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم التيمي، حدثني أبي قال: خطبنا علي -رضي الله عنه- على منبر من آجر، وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: والله، ما عندنا من كتاب يقرأ، إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا...، فذكر الحديث نفسه.
فكيف لمدع أن يتكلم في سند حديث، لم يجمع طرقه ورواياته، ثم يحمله الهوى على الطعن في شيخ البخاري في الرواية المصرح فيها بالسماع، وهو عمر بن حفص بن غياث، ذكره بحفص بن غياث، وهو رجل آخر، ليس في شيء من طرق الحديث عن البخاري، فلعله يعني عمر بن حفص بن غياث، وعمر هذا ثقة، وثقه أحمد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما يخطئ، ولخص الحافظ ابن حجر القول فيه، كما في تقريب التهذيب بأنه: ثقة ربما وهم.
ومما يدل على عدم خطئه في هذا الحديث: أن البخاري رواه عن محمد بن بشار، وقتيبة بن سعيد، فسلم الحديث -بحمد الله- من احتمال الخطأ، ثم إن الأعمش مأمون تدليسه في حالتين غير التصريح بالسماع: أولاهما: إذا عنعن عن شيوخ له، أكثر الرواية عنهم. وأخراهما: إذا روى عنه شعبة.
فأما الحالة الأولى: فقال عنه الذهبي في الميزان: وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: حدثنا، فلا كلام، ومتى قال: "عن"، تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له، أكثر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
وأما الحالة الثانية، فقد قال شعبة، كما في فتح الباري: كفيتكم تدليس ثلاثة: قتادة، والأعمش، وأبي إسحاق السبيعي.
وقد جاء هذا الحديث في بعض طرقه خارج البخاري، عن شعبة، عن الأعمش، عن علي بن سويد، عن علي به، كما ذكره الدارقطني في العلل، وليس هذا الحديث من الأحاديث التي انتقدها الحافظ الدارقطني على البخاري.
فنقول لهذا المتطاول على السنة من سلفك في تضعيف هذا الحديث: من أنت أيها النكرة حتى تخرق إجماع أهل الحديث؟! وعنعنة الأعمش كثيرة في الصحيحين، مما يدل على اتصال أحاديثه عندهما، ففي البخاري: الأعمش، عن سالم، وعن مسلم، وعن إبراهيم (النخعي)، وعن عمرو، وعن مجاهد، وعن محارب، وعن أبي صالح، وعن عمارة، وعن الربيع، وعن أبي ميسرة، وفي مسلم: الأعمش، عن شقيق، وعن عمرو بن مرة، وعن خيثمة، وعن أبي سفيان، وعن إبراهيم، وعن المسيب بن رافع، وغيرهم.
الحديث الثاني:
حديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصص القبر، وأن يعقد عليه، وأن يبنى عليه. أخرجه مسلم برقم: 1610، والنسائي برقم: 2000، وأحمد برقم: 13634، عن جابر، وأحمد برقم: 25344 عن أم سلمة -رضي الله عنها-، وفي سنده عنها ابن لهيعة، ضعيف من قبل حفظه.
وأعل هذا المجترئ الحديث بثلاث علل: أن ابن جريج تمتع بسبعين امرأة!. وأن في الحديث عنعنة ابن الزبير، عن جابر، وأن حفص بن غياث ساء حفظه.
أما كون ابن جريج تمتع بسبعين امرأة، فلا يقدح في عدالته؛ لأنه كان يرى الرخصة في ذلك، وهو ثقة، فقيه فاضل، كما قال ابن حجر في تقريب التهذيب، ولو أن هذا المدلس نقل كلام الذهبي عنه في ميزان الاعتدال كاملا؛ لعرف ذلك، ولا شك أنه وقف عليه، ولكن كتمه لحاجة في نفسه معلومة، فقد قال الذهبي هناك: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أبو خالد الملكي، أحد الأعلام الثقات، يدلس، وهو في نفسه مجمع على ثقته، مع كونه قد تزوج نحوا من سبعين امرأة نكاح المتعة، كان يرى الرخصة في ذلك، وكان فقيه أهل مكة في زمانه....
وبقي احتمال تدليسه، وإرساله، فقد رواه مسلم عنه بالعنعنة، حيث قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر به، ولكن أمن تدليسه، وكذلك تدليس أبي الزبير، عن جابر؛ بتصريحهما بالتحديث، والسماع في الطريقين التاليين، اللذين ذكرهما الإمام مسلم بعد الإسناد الذي تكلم فيه هذا المدلس الجهول! قال مسلم: وحدثني هارون بن عبد الله، حدثنا حجاج بن محمد، وحدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق جميعا عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وأما حفص بن غياث، فصحيح أن حفظه ساء، وهو ثقة ثبت إذا حدث من كتابه، كما قال يعقوب بن أبي شيبة، وكما قال يحيى القطان: ثقة كتابه صحيح، فما يدري هذا الجاهل أن حفصا حدث من كتابه أم حدث من حفظه، وعلى كلتا الحالتين، فإنه لم يخطئ في هذا؛ بدلالة أنه تابعه على روايته عن ابن جريج: حجاج بن محمد، وعبد الرزاق، كما تقدم، وللحديث طرق أخرى كلها عن أبى الزبير، أنه سمع جابرا مخرجه في أبي داود، والنسائي، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، وابن أبي شيبة.
الحديث الثالث:
حديث أبي الهياج الأسدي رواه مسلم بإسناده إلى حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تدع تمثالا، إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا، إلا سويته. وأعل هذا الحديث بعنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو من المدلسين، وهذا صحيح، ولكن ينبغي استصحاب الأصل العام، الذي نص عليه النووي في المقدمة، وهو أن ما روي في مسلم بالعنعنة، فهو محمول عنده على الاتصال، ولعل له طريقا أخرى، وقف عليها مسلم وقد تكون هذه الطريق خارج الصحيح.
وروايات هذا الحديث عند مسلم لم يصرح فيها حبيب بالسماع من أبي وائل، وكذلك أخرجه بالعنعنة المذكورة أحمد، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، والبيهقي، والنسائي في الكبرى، وأبو يعلى، ولكن للحديث متابعة، فقد تابع حبيبا الأعمش، عن أبي وائل. رواه الطبراني في الأوسط.
وللحديث طرق أخرى، ذكرها الدارقطني في العلل.
الأولى: النضر بن إسماعيل، عن معمر، عن جابر، عن الشعبي: استعمل أبا الهياج.
الثانية: أبو حماد الحنفي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الهياج.
الثالثة: يونس بن خباب، وسيار أبو الحكم، عن جرير بن حيان، عن أبيه، عن على. بل وصححه الإمام الدراقطني هناك حيث قال: ما رواه يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، ومن تابعهما، وهو الصحيح: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا محرز بن عون بن أبي عون قال: ثنا حسان بن إبراهيم، عن خالد ابن الحارث، عن سفيان بن سعيد، قال: أنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهياج، عن علي، قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع قبرا مشرفا، إلا سويته، ولا تمثالا في بيت، إلا طمسته.
وحسبك بتصحيح الدراقطني، وحسنه الترمذي، وكذا صحح الحديث غير واحد من أهل الدراية، حيث ذكروه في كتبهم، منهم المحتج به، كابن حزم في المحلى، ومنهم المخرج له الساكت عنه، كابن حجر في التلخيص الحبير، والزيلعي في نصب الراية، كما صححه من المحدثين المعاصرين: الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه للمسند، والعلامة الألباني في إرواء الغليل، وصحيح الجامع، وصحيح الترمذي، والنسائي، وأبي داود، وأورد له في الإرواء أربعة شواهد: اثنان صحيحان، والآخران ضعيفان، والشاهدان الصحيحان:
أحدهما: حديث فضالة بن عبيد عن مسلم الآتي، والثاني عند أحمد، وابن أبي شيبة، عن أشعث بن سوار، عن ابن أشوع، عن حنش بن المعتمر، أن عليا -رضي الله عنه- بعث صاحب شرطته، فقال: أبعثك كما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدع قبرا مشرفا، إلا سويته، ولا تمثالا، إلا وضعته. فالحديث صحيح، ولا يقدح فيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، التي لم يعدها قادحا كل من روى الحديث من الأئمة الحفاظ، ممن سمينا، وممن لم نسم.
الحديث الرابع:
حديث فضالة بن عبيد الذي رواه مسلم برقم: 1608 أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره، فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. أعله هذا المفتري بأن ابن وهب مختلف في اسمه! وعزا هذا القول للتقريب، وبنظرنا في تقريب التهذيب (1/430) الترجمة رقم: (4099) وجدناه يقول: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد، من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين، وله اثنتان وسبعون سنة. يعني روى له الجماعة، وأما الاختلاف المزعوم في اسمه، فلم نجده لأحد ممن ترجم له، وانظر تهذيب الكمال، ولسان الميزان، وتذكرة الحفاظ.
ومما يؤكد أن ابن وهب المذكور في السند هو عبد الله بن وهب بن مسلم أن من شيوخه عمرو بن الحارث، ومن تلاميذه أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمر، وابن السرح شيخ مسلم، وأثبت كل من ذكر أن من تلاميذه وشيوخه من ذكرنا، أثبت أن اسمه عبد الله بن وهب بن مسلم. للتمثيل فقط؛ ينظر تهذيب الكمال، وتذكرة الحفاظ في الموضعين السابقين.
ثم إنه لو ثبت الاختلاف في اسمه، فإنه لا يضر، ما دامت عينه معلومة، وهو ثقة، وقد اختلف الناس في اسم أبي هريرة إلى سبعة عشر قولا، وفي أسماء كثير من الصحابة، وغيرهم.
وبعد هذا البيان؛ وضح أن لا مطعن في شيء من الأحاديث، التي اجترأ عليها ذلك القبوري، فضعفها جميعا، بلا حجة، إلا الهوى، والتعصب -والله المستعان-.
ثالثا: ما ورد في الاستفتاء عن بعض الأمور، التي جوزها هذا المبتدع المتعالم، مما يسمى بحيلة الإسقاط بعد صلاة الجنازة، والدعاء الجماعي ثلاثا بعد السنن، وصلاة أربع ركعات بعد الجمعة احتياطا، وصلاة القضاء العمري، وتخصيص ليلة الجمعة بقراءة سورة الملك، وكذا تخصيص العنكبوت، والروم بليلة ثلاث وعشرين، واتخاذ الضيافة للميت ثلاثة أيام، كل ذلك من البدع المحدثة، التي لا نعلم فيها سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الابتداع في الدين، في كثير من الأحاديث، عمدتها قوله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد. متفق عليه من حديث عائشة. ولمسلم عنها: من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد. ولا أعجب ممن يرد الأحاديث الصحيحة، ثم يثبت العبادات، والقربات بالأحاديث الواهيات، أو بمجرد الاستحسان، والتشهي!.
أما ختم القرآن للميت، وإهداء ثوابه له، فالمسألة محل خلاف بين الفقهاء، فقد منع من ذلك مالك، في المشهور عنه، والشافعي، واحتجوا بالآية الكريمة: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [لنجم:39]، وأجاز ذلك أبو حنيفة، وأحمد، وبعض الشافعية، ومن وافقهم، وهو الراجح -إن شاء الله-؛ لأن الميت يصله ثواب أعمال لم يعملها، كالصدقة بالإجماع، كما نقله مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن المبارك، فهو لا يستحق إلا عمله، ولكن لو عمل إنسان عملا صالحا -كقراءة القرآن-، فإنه ملك ثوابه -بإذن الله-، فإذا ملك الثواب، فله أن يهديه لمن شاء.
أما الصفة المذكورة في السؤال من اجتماع الناس للقراءة، وأخذ الأجرة على ذلك - مهما سميت-، فإنها بدعة ضلالة، فلا يجوز فعلها.
وأخيرا: هل يسمى هذا الرجل الذي ألف الرسالة المسماة بـ (تذكرة صاحب مبارك)، أو رسالة (الدر المكنون)، هل يسمي بمتبع السنة؟ وهل هو من أهل السنة والجماعة؟
فنقول: إن صح النقل المسؤول عنه عن هذا الرجل، فإنه ليس من أهل السنة والجماعة، ولا كرامة، بل هو مبتدع ضال مضل -أعاذ الله المسلمين من فتنته، وضلاله-، ولكن يبقى الحكم بتكفيره متوقفا على شروط التكفير، وموانعه، ومثل هذا تقام عليه الحجة من أحد العلماء، الذين لهم اتصال به، ومعرفة بمؤلفاته؛ حتى يناظروه، ويناصحوه، ويقيموا عليه الحجة، فإن تاب، ورجع عن المكفرات الواردة في كتبه، فالحمد لله، وإلا فهو مشرك كافر -والعياذ بالله-.
نسأل الله لنا، وله، ولكم، ولجميع المسلمين الهداية، والتوفيق لما يحب، ويرضى.
ونرجو إرسال أصل هاتين الرسالتين، لعله يتيسر لنا الرد عليها، فيكون فيه نفع للمسلمين، خاصة في بلادكم (باكستان). والحمد لله رب العالمين.
والله أعلم.