تفنيد شبهات حول إعفاء اللحية

0 661

السؤال

سئل أحد المهتمين بالشأن الدعوي في اليمن عن سبب انفضاض الكثير من العامة من حول الدعاة وارتفاع وتيرة ظاهرة انتقاد الملتزمين "المطاوعة" ـ التسمية الشعبية الدارجة لهم ـ في المجالس والمناسبات العامة، فأجاب بالتالي: "الحقيقة الكثير من الدعاة يبررون هذا الانتقاد بأنه ضريبة الالتزام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تعرض له أصحاب الرسالات والدعوات منذ بدء الخليقة، ولكني أخالفهم الرأي بأنه ليس هذا هو السبب الوحيد، وليس من العدل إلقاء الكرة دائما في ملعب الآخرين وتبرئة الملتزمين من أي تبعات في هذا الخصوص، بمعنى أن من أكبر أسباب الانتقادات الموجهة "للمطاوعة" هو حرص الكثيرين على تربية اللحية أول ما يبدأون بالالتزام وتشديد الدعاة على ذلك، وهذا أوقعنا في إشكاليات, منها أن الناس لديهم اعتقاد بأن الملتحي يمثل واجهة الإسلام والالتزام، ويتوسم فيه الآخرون الصدق والأمانة والوفاء وغيرها من الصفات التي حث عليها ديننا الكريم، فإذا بدرت منه بوادر نصب أو احتيال أو عمل لا أخلاقي انصدم الناس، وبتكرر مثل هذه الحوادث وبحكم أن السيئة تعم، انتهى بنا المطاف بما نلمس الآن من اهتزاز صورة الملتحين وفقدان الناس ثقتهم في معظمهم، ولذا أنا أدعو من منبري هذا الدعاة ألا يركزوا على قضية اللحية خصوصا للملتزمين حديثا، وهي لا شك أمر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها من جملة آلاف الواجبات، ولذلك من الحكمة أن لا يهتم الملتزم حديثا بتربية لحيته قبل أن يقبل على تربية نفسه تربية إيمانية حقيقية يحقق فيها سلامة اللسان والقلب وعفة المطعم وضبط النفس وحسن الخلق، ويقطع في ذلك أشواطا جيدة تمكنه فيما لو أطلق لحيته من التأثير في المحيط وعكس نظرة إيجابية لدى الناس عن الملتزمين فيغريهم بالاقتداء به والسير على خطاه واستعادة الثقة بالملتزمين مرددين "هذا هو الإسلام الذي وجدناه في كتبنا" خصوصا وأن هذه الأمور هي التي تؤثر في الآخرين لا اللحية, وكذلك نحن في واقع يظن الناس فيه أن صاحب اللحية يمثل الدين بينما لم تكن اللحية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقياسا للتقوى من عدمه، فينبغي أن يدرك من يريد أن يطلق لحيته أنه على ثغرة من ثغور الإسلام ويقبل على تربية نفسه أولا ومن ثم يكلل ذلك بإطلاق اللحية، فالعاقل يقيم دولة ثم يرفع علمها لا العكس" انتهى كلامه.
السادة العلماء ما تعليقكم على كلام هذا الداعية بارك الله فيكم؟ وهل لمن أراد الالتزام أن يؤخر مسألة إطلاق لحيته إلى أن يجاهد نفسه في الأمور الأخرى خصوصا أن الإنسان يظل في جهاده لنفسه إلى أن يموت بل قد يجاهد نفسه في جانب واحد سنين طويلة كذاك التابعي الذي كابد لسانه عشرين سنة حتى استقام له؟ وما هي المدة الزمنية التي يستطيع المرء بعدها أن يشرع في إطلاق لحيته فيما لو صح كلام هذا الداعية؟
أفتونا مأجورين.

الإجابــة

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن يكن لنا تعليق مجمل على هذا الطرح المذكور فإننا نورده فيما يلي:

أولا: ليعلم أن الواجب على جميع المسلمين هو الالتزام بجميع شعائر الدين، هذا هو الأصل؛ كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان {البقرة:208}، قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ: يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك، قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وطاوس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله ادخلوا في السلم يعني الإسلام، وقال الضحاك عن ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس: ادخلوا في السلم يعني الطاعة. وقال قتادة أيضا: الموادعة. وقوله كافة قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة والضحاك: جميعا، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر. انتهى، فعلى كل مسلم أن يعمل بما يقدر عليه من تعاليم الدين دون تأخير أو تسويف لشيء من ذلك، وأما ما يعجز عنه فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فمن قدر على إطلاق لحيته وجب عليه ذلك ولم يجز له تأخير إطلاقها بزعم أنه لم يؤدب نفسه ولم يهذبها، وبزعم أنه سيكون واجهة مشوهة للالتزام، بل هذا من تلبيس الشيطان على كثير من الناس، يحملهم به على ترك كثير من أمور الهدي الظاهر بزعم أنهم بالتزامهم بها يشوهون الدين لما يتلبسون به من مخالفات، وهذا الذي يفعل هذا قد أضاف إلى مخالفاته مخالفة أخرى يأثم بها، ولو التزم بهذه الشعيرة -مثلا- فإن الله سيعينه على الالتزام بغيرها، فإن من علامة الحسنة الحسنة بعدها، وكم رأينا ورأى الناس أشخاصا كثيرين كان التزامهم باللحية ونحوها من مسائل الهدي الظاهر بوابة لاستقامتهم وإصلاح ظواهرهم وبواطنهم.

ثانيا: الحديث عن خصوص اللحية وما يمكن أن يتسبب فيه إطلاق الملتزمين الجدد لها من غير تزكية للنفوس، والتأثير السلبي لذلك في تشويه صورة المتدينين أمر موجود في الواقع بلا شك، ولكن لا يقتضي ذلك الأمر بترك إعفاء اللحية، فمثلا: المحافظة على الصلاة هي أعظم سيما للأيمان والتدين، ومع ذلك قد يوجد من المصلين من يكذب ويخون، ونحو ذلك، وفي التنزيل: فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون {الماعون:4-5-6-7}، فهل يقال بعدم إظهار المحافظة على الصلاة من قبل حديثي الالتزام لئلا تتشوه صورة المصلين واستقامتهم؟! لا يقول بهذا أحد، ومن الأمثلة الواقعية: أن بعض المدارس الدعوية تتبنى عدم إعفاء اللحية بدعوى أن ذلك أرجى لقبول الناس للمتدين والداعية، ومع ذلك لم تسلم من تشوه صورتها ونفور بعض الناس عنها، وتسلط الأشرار عليها، فتشوه صورة المتدينين بأفعال بعضهم هو أمر قدري واقع، وليس علاجه هو في الأمر بترك بعض شعائر الدين الظاهرة في بعض المراحل، بل علاجه هو في إفهام الناس أن المتدينين طبقات شتى منهم الصادق، ومنهم دون ذلك، وقد كان فيمن يظهر الإيمان وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو في الباطن منافق، فكيف بزماننا؟. ومن العلاج كذلك: تربية المتدين على أن انحرافه مع إظهاره للتدين فيه تشويه للدين وأهله، وتخويفه بأن مثل هذا من الصد عن سبيل الله المستوجب للعقوبة، كما قال تعالى: ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم {النحل:94}، قال ابن كثير: حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرا، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها: مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن طريق الهدى، بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام. اهـ.

ويبقى حكم اللحية على ما دلت عليه الأدلة الشرعية والأمر بإطلاقها، هذا مع مراعاة ما أشار إليه السائل من أن تزكية النفس وإصلاح آفاتها وترويضها على الأخلاق الفاضلة، ليس لها أمد معين تنتهي إليه، ولا حد معلوم توقف عليه! فلا يصح أن ينهى أحد عن إطلاق لحيته بدعوى حداثة التزامه، بل يرغب فيه ويعرف بفضيلته، ويوصى بأن يوافق مظهره مخبره، وأن يكون من الدعاة إلى الله بسمته وهيئته، وسلوكه ومعاملته، وأن لا يكون إطلاق لحيته سببا في تنفير الناس من السنة، ونحو ذلك مما يحتاجه.

ثالثا: جعل ما ذكر السبب الأكبر لصدود الناس عن الاستقامة فيه مبالغة ظاهرة، فهذا وإن كان سببا من جملة الأسباب؛ لكن ثمة أسباب كثيرة لانحراف الناس وصدودهم عن الاستقامة من أهمها: المكر الكبار من أعداء الدين الذين لا يفتؤون يضخمون بعض أخطاء المستقيمين ويلصقون بهم ما ليس فيهم، وعلاج هذا يكون بمخالطة الناس وإراءتهم عدم صحة ما تتبناه تلك الجهات من الطعن والتشويه، وما أكثر ما هدى الله من كانوا يظنون بالمستقيمين السوء لما خالطوهم وعاشروهم.

رابعا: لسنا ننكر أهمية التدرج في التربية والتعليم، فمن علمنا -مثلا- أنا لو أمرناه بأمر من أوامر الدين كان ذلك سببا في إعراضه عما هو أكبر منه فإننا نؤخر أمره بذلك ونبدأ بالأهم، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى أهل اليمن فقال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم. رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ عبد المحسن العباد في شرح سنن أبي داود: فيه دليل على التدرج من الأهم إلى المهم في الدعوة، فيبدأ لهم بالأساس الذي إذا أتوا به انتقلوا إلى غيره. اهـ. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما إلى بيانها. يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون -مثلا- وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. انتهى،

ولكن لا بد أن يقدر هذا بقدره ويوضع في نصابه، ولا يكون التذرع بالتدرج في التربية والتعليم سبيلا لإضاعة ما يقدر عليه من أوامر الشرع وأحكامه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة