الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ما يذكره العلماء حول تكفير المعين من ضوابط ونحو ذلك المقصود به: هو من يظهر الانتساب للإسلام، وأما الذي ينتسبون إلى دين غير الإسلام ـ كاليهود والنصارى ـ فلا إشكال البتة في الحكم عليهم بأعيانهم بالكفر ـ فيما يتعلق بأحكام الدنيا ـ بل إن عدم تكفير من ينتسب إلى دين غير دين الإسلام كفر، جاء في الشفا للقاضي عياض: الإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك، قال القاضي أبو بكر: لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص، والتوقيف أو شك فيه والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر. اهـ.
وأما ما يتعلق بعذر من لم تبلغه دعوة الإسلام ولم يتمكن من العلم به حق العلم: فهذا يعذر عند الله في الآخرة، وأما في أحكام الدنيا فإنه تجرى عليه أحكام الكفر، فكل من لم ينتسب للإسلام فهو محكوم عليه بكفر بعينه في الدنيا بلغته الدعوة أم لم تبلغه.
وأما عن سؤالك، وهل (بمجرد سماع اليهود والنصارى في عصرنا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم تكون قد قامت عليهم الحجة مع احتمال بلوغ دعوة الإسلام إليهم مشوهة سواء عبر وسائل إعلامهم أو النماذج المسلمة التي نقلت لهم صورا خاطئة عن ديننا): فقيام الحجة يكون بالتمكن من العلم بها، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
قال ابن تيمية: والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به. اهـ. من مجموع الفتاوى .
وقال ابن القيم: فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به، سواء علم أم جهل، فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، فقصر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله سبحانه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه. اهـ. من مدارج السالكين .
وقال ابن القيم ـ في كلامه عن طبقات المكلفين ـ: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم... ثم قال: والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.
هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] ، وقال تعالى: {كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء} [الملك: 8- 9]، وقال تعالى: {فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} [الملك: 11]، وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأنعام: 130]، وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، وقال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} [الزخرف: 76]، والظالم من عرف ما جاء به الرسول أو تمكن من معرفته، وأما من لم [يكن عنده من الرسول خبرا أصلا ولا يمكن من معرفته بوجه] وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟
الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادة العلم بها وبموجبها، الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم...
الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة. اهـ. من طريق الهجرتين .
فمن سمع بدعوة الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم وكان يمكنه العلم بذلك على وجهه الصحيح: فقد قامت عليه الحجة، ويصدق في حقه ما جاء في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار أخرجه مسلم.
وأما من لم يتمكن من العلم بالإسلام على وجه صحيح فهو لم تقم عليه الحجة التي يستوجب بها العذاب في الآخرة.
فمدار الأمر في قيام الحجة هو على التمكن من العلم الصحيح، وليس على مجرد السماع، أو على بلوغ الدعوة إليه مشوهة من عدمه.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 240013.
والله أعلم.