الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما الخلاف في الحكم على من قال كلمة الكفر عامدا، مختارا على سبيل الهزل، أو المزاح، فهو خلاف ضعيف بل شاذ، وما نقله السائل نفسه في سؤاله يدل على ذلك. وقد حكي الإجماع على كفره.
قال الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين في كتابه: (تسهيل العقيدة الإسلامية): وقد أجمع أهل العلم على كفر من سب، أو استهزأ بشيء مما ثبت أنه من دين الله تعالى، سواء أكان هازلا، أم لاعبا، أم مجاملا لكافر أو غيره، أم في حال مشاجرة، أم في حال غضب، أم غير ذلك. اهـ.
ثم نقل ما يقتضي ذلك من كلام أهل العلم، ومنه:
ـ قال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن 2/976: "الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة".
وقال ابن أمير الحاج الحنفي في التقرير والتحبير 2/267: "وهو - أي التكلم بالكفر هزلا - كفر بالنص والإجماع". اهـ. ملخصا.
وقال ابن نجيم في البحر الرائق 5/134:"من تكلم بكلمة الكفر هازلا، أو لاعبا كفر عند الكل".
وذكر الألوسي في روح المعاني 10/131 أنه لا خلاف بين الأئمة أن الجد، واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في (التيسير) ص553: "من استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه كفر ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعا". انتهى.
ثم إننا لو قلنا بغير ذلك لبطلت دلالة الألفاظ، وأمكن لكل أحد أن يدعي الهزل.
قال الألوسي في (جلاء العينين ص: 515): لو قلنا: إن الألفاظ لا عبرة بها، وإنما العبرة للاعتقاد، لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة اتفاقا أن يقول: لم تحكمون بردتي؟! فيذكر احتمالا، ولو بعيدا، يخرج به عما كفر فيه، ولما احتاج إلى توبة، ولا توجه عليه لوم أبدا. وهذا ظاهر البطلان، ولساغ لكل أحد أن يتكلم بكل ما أراد، فتسد الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ. اهـ.
والعلة في كفر الهازل بكلمة الكفر، هي استخفافه بالدين؛ لقصده النطق بهذه الكلمة اختيارا.
قال ابن عابدين في (حاشية رد المحتار): الهازل إنما كفر مع عدم قصده لما يقول، بالاستخفاف؛ لأنه صدر منه عن قصد صحيح، استخفافا بالدين. اهـ.
وقال ابن القيم في (إعلام الموقعين): قد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته: "اللهم أنت عبدي، وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح ـ لم يكفر بذلك، وإن أتى بصريح الكفر؛ لكونه لم يرده. والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته، ولم يكفر؛ لعدم إرادته، بخلاف المستهزئ، والهازل فإنه يلزمه الطلاق، والكفر، وإن كان هازلا؛ لأنه قاصد للتكلم باللفظ، وهزله لا يكون عذرا له، بخلاف المكره، والمخطئ، والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله، أو مأذون له فيه، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود، فهو متكلم باللفظ، مريد له، ولم يصرفه عن معناه إكراه، ولا خطأ، ولا نسيان، ولا جهل، والهزل لم يجعله الله، ورسوله عذرا صارفا، بل صاحبه أحق بالعقوبة، ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، ولم يعذر الهازل بل قال: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}. وكذلك رفع المؤاخذة عن المخطئ، والناسي. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 128480.
وأما بخصوص كلمة الجدة المسئول عنها، وهي: (الخمر حلال عندما نريد طهي السمك اللذيذ) ! فظاهرها بالفعل أنها كلمة كفرية؛ لما فيها من رد، أو تكذيب لحكم الشرع؛ لأن الحلية إن أطلقت يراد بها الحلية الشرعية، خاصة وأن هذا اللفظ إنما يطلق على ما عرفت إباحته بالشرع.
قال أبو هلال العسكري في (معجم الفروق اللغوية): الفرق بين الحلال، والمباح: أن الحلال هو المباح الذي علم إباحته بالشرع، والمباح لا يعتبر فيه ذلك تقول: المشي في السوق مباح، ولا تقول حلال. اهـ.
وإن أريد بالحلية خلاف هذا، ففي ذلك نوع استخفاف بذكر الألفاظ الشرعية في غير محلها. وقد قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل: 116] وقال سبحانه: {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} [البقرة: 231].
والاستخفاف نوع استهزاء.
قال البيضاوي: الاستهزاء: السخرية، والاستخفاف، يقال: هزئت، واستهزأت بمعنى، كأجبت، واستجبت، وأصله الخفة، من الهزء وهو القتل السريع. اهـ.
وجاء في (الفتاوى الهندية): من أتى بلفظة الكفر، وهو لم يعلم أنها كفر، إلا أنه أتى بها عن اختيار ـ يكفر عند عامة العلماء، خلافا للبعض، ولا يعذر بالجهل. كذا في الخلاصة. الهازل، أو المستهزئ إذا تكلم بكفر؛ استخفافا، واستهزاء، ومزاحا ـ يكون كفرا عند الكل، وإن كان اعتقاده خلاف ذلك. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في (الإعلام بقواطع الإسلام): قال بعض الحنفية: اعلم أن من تلفظ بلفظ الكفر يكفر، وإن لم يعتقد أنه لفظ الكفر، ولا يعذر بالجهل. وكذا كل من ضحك عليه، أو استحسنه، أو رضي به، يكفر. ومن أتى بلفظ الكفر حبط عمله، وتقع الفرقة بين الزوجين، ويجدد النكاح برضا الزوجة إن كان الكفر من الزوج. وإن كان من الزوجة، تجبر على النكاح، وهذا بعد تجديد الإيمان، والتبرؤ من لفظ الكفر، حتى أن من أتى بالشهادة عادة، ولم يرجع عما قاله، لا يرتفع الكفر عنه، ويكون وطؤه وطء زنا، وولده ولد الزنا. وعند الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه-: لو مات على الكفر حبطت أعماله، ولو ندم، وجدد الإيمان لم يحبط عمله، ولا يلزم تجديد النكاح، ولو صلى صلاة الوقت، ثم أسلم، لم يقضها، وعندنا يقضيها، وكذا الحج، فلو أتى بكلمة، فجرى على لسانه كلمة الكفر بلا قصد، لا يكفر. انتهى كلام هذا الحنفي. وما حكاه عن مذهبنا صحيح، بل مذهبنا موافق لجميع ما قاله، إلا في إطلاق عدم العذر بالجهل، فإنه عندنا يعذر إن قرب إسلامه، أو نشأ بعيدا عن العلماء. وإلا في إطلاقه وقوع الفرقة بين الزوجين، فإنها عندنا لا تقع إلا إن صدرت الردة من أحد الزوجين قبل الوطء، فحينئذ تقع الفرقة مطلقا، فإن وقعت من أحدهما بعد الوطء، انتظرنا المرتد، فإن أسلم قبل انقضاء العدة، بان بقاء النكاح، وإن استمر لانقضائها بان بطلان النكاح من يوم الردة. اهـ.
وفي قوله: "عندنا يعذر إن قرب إسلامه أو نشأ بعيدا عن العلماء". بيان لما يمكن أن يكون المخرج لمن قال ذلك، فقد انتشر الجهل في عصرنا هذا، وقل أهل العلم الذين يبصرون الناس بأمور دينهم! حتى صار من المحتمل أن تجهل حرمة مثل هذه الألفاظ، فضلا عن الجهل بكونها ألفاظا كفرية!!
وعلى أية حال، فالنظر هنا إنما هو في كون هذه العبارة عبارة كفرية بالفعل أم لا؟ وليس في عذر المتكلم بكلمة الكفر إن كان هازلا!
وأما السؤال عن حكم المستمع لكلمة الكفر، فإنه وإن كان من الواجب عليه أن يبذل ما يقدر عليه من النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلا أن سكوته لا يعني أن له حكم الناطق بهذه الكلمة، إلا إذا رضيها وأقرها، كما سبق بيانه في الفتويين: 131228، 290179.
وأما قول السائل: (قرأت أن من يؤجل تعليم الشهادتين للكافر، فيقع في الكفر) ! فلا نعلم قائلا بذلك من أهل العلم. وإنما ذكروا ذلك في من سأله كافر أن يعلمه الإسلام، أو يلقنه شهادة التوحيد، فأخره بغير عذر. وهذا بناء على أن تأخره يستلزم الرضا بالكفر.
قال النووي في (روضة الطالبين): قالوا: ولو قال كافر لمسلم: اعرض علي الإسلام، فقال: حتى أرى، أو اصبر إلى الغد، أو طلب عرض الإسلام من واعظ، فقال: اجلس إلى آخر المجلس ـ كفر. اهـ.
ونقل قبل ذلك عن المتولي قوله: الرضى بالكفر كفر، حتى لو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة التوحيد، فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأن يرتد، فهو كافر. اهـ.
وقال ابن حجر في (الإعلام): ومن المكفرات أيضا أن يرضى بالكفر ولو ضمنا، كأن يسأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة الإسلام، فلا يفعل. أو يقول له: اصبر حتى أفرغ من شغلي، أو خطبتي لو كان خطيبا. اهـ.
وقال في موضع آخر: وهو المعتمد، وبه جزم البغوي. اهـ.
وقال في بيان علة الكفر هنا: وليس علة الكفر ثم إلا رضاه ببقائه عليه تلك المدة، فالصواب أن الرضا بكفر الغير كفر. اهـ.
وعند الحنفية في ذلك خلاف.
قال في (مجمع الأنهر): كافر جاء إلى رجل وقال: اعرض علي الإسلام. فقال: اذهب إلى فلان ـ يكفر. وقيل: لا يكفر. اهـ.
والله أعلم.