السؤال
سئل الدكتور الداعي الشهير ذاكر نايك تلميذ أحمد ديدات ـ رحمه الله ـ عن خطأ في القرآن, فقال: إن القرآن لا يمكن أن يحوي أخطاء لغوية؛ لأن القرآن أصلا هو مصدر القواعد النحوية والعربية، أي أن القواعد في اللغة تستمد منه, إذا كان كذلك فهنا لم يبق في القرآن إعجاز لغوي؛ لأنه هو المصدر، فقد حكمنا عليه من ذاته من قواعد العربية المستخرجة منه لا من قواعد خارجية.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذه الرسالة لم يرد فيها سؤال.
وأما القرآن فهو معجز في لفظه ومعناه، أما في لفظه فلا يقصر إعجازه على سلامته من الأخطاء، فإن هذا حاصل للأعراب؛ بل إن إعجازه من حيث بلاغته وأسلوبه ومعانيه وإخباره بما كان وما سيكون، وإخباره بحقائق بعض المخلوقات ودقائق تركيبها، وقد عجز العرب عن الإتيان بمثله في فصاحته وعلومه، كما قال ابن جزي في تفسيره المسمى التسهيل لعلوم التنزيل: وقال ابن عرفة في تفسيره: فأتوا بسورة من مثله ـ قال الأكثرون مثل نظمه ووصفه وفصاحة معاينه، وقال بعضهم من مثله في غيوبه وصدقه. انتهى.
وقال الألوسي: والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز. انتهى.
قال ابن حجر: ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه، وفي بلاغته، وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون؛ يدل على صحة دعواه… فعم نفعه من حضر ومن غاب، ومن وجد ومن سيوجد، إن هو إلا ذكر للعالمين* ولتعلمن نبأه بعد حين. اهـ
وقد تحدى الله العرب البلغاء الفصحاء مجتمعين مع الجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال الله تعالى: فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين {الطور:34}.
وقال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا {الإسراء:88}.
بل تحداهم بسورة واحدة، قال الله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين {البقرة:23}.
ثم أخبر سبحانه وتعالى أنهم لن يأتوا بمثله ولو تعاونوا جميعا، ولم يسمع في التاريخ من ذلك العصر إلى اليوم أن أحدا كتب مقالا يحاكي القرآن، وصدق الله تعالى إذ يقول: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا {الإسراء:88}، قال ابن كثير في البداية والنهاية في معرض حديثه عن دلائل النبوة المعنوية: وهو معنوية وحسية، فمن المعنوية إنزال القرآن عليه وهو أعظم المعجزات، وأبهر الآيات، وأبين الحجج الواضحات لما اشتمل عليه من التركيب المعجز الذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعي أعدائه على معارضته وفصاحتهم وبلاغتهم، ثم تحداهم بعشر سور منه فعجزوا، ثم تنازل إلى التحدي بسورة من مثله فعجزوا عنه، وهم يعلمون عجزهم وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبدا، قال الله تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [الإسراء:88]، وهذه الآية مكية، وقال في سورة الطور وهي مكية: أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون* فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين، أي إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده فهو بشر مثلكم فأتوا بمثل ما جاء به فإنكم مثله، وقال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية معيدا للتحدي: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين* فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين [البقرة:23-24]، وقال الله تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين* فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:13-14]، وقال الله تعالى: وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين* أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين* بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين [يونس:37-38-39]، فبين تعالى أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن؛ بل عن عشر سور مثله؛ بل عن سورة منه، وأنهم لا يستطيعون ذلك أبدا، كما قال الله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) أي فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، وهذا تحد ثان وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا التحدي إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته ولا الإتيان بمثله، ولو كان من منقول من عند نفسه لخاف أن يعارض فيفتضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة الناس له، ومعلوم لكل ذي لب أن محمدا من أعقل خلق الله بل أعقلهم وأكملهم على الاطلاق في نفس الأمر، فما كان ليقدم هذا الأمر إلا وهو عالم بأنه لا يمكن معارضته وهكذا وقع، فإنه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدا فإنه كلام رب العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق. انتهى.
ونقل السيوطي في الإتقان في علوم القرآن قوله: اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن، فذكروا في ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة وصواب وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءا واحدا من عشرة معشاره فقال قوم: هو الإيجاز مع البلاغة، وقال آخرون: هو البيان والفصاحة، وقال آخرون: هو الرصف والنظم، وقال آخرون: هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر مع كون حروفه في كلامهم ومعانيه في خطابهم وألفاظه من جنس كلماتهم، وهو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم وجنس آخر عن أجناس خطابهم حتى إن من اقتصر على معانيه وغير حروفه أذهب رونقه، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته، فكان في ذلك أبلغ دلالة على إعجازه، وقال آخرون: هو كون قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وإن تكررت عليه تلاوته، وقال آخرون: هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية، وقال آخرون: هو ما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع، وقال آخرون: هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها ويشق حصرها، وقال الزركشي في البرهان: أهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد على انفراده، فإنه جمع ذلك كله فلا معنى نسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع؛ بل وغير ذلك مما لم يسبق، فمنها: الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقر والجاحد، ومنها: أنه لم يزل ولا يزال غضا طريا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين، ومنها: جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة، وهما كالمتضادين لا يجتمعان ـ غالبا ـ في كلام البشر، ومنها: جعله آخر الكتب غنيا عن غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه، كما قال تعالى: إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [النمل:76]. اهـ
والله أعلم.