الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يطهر قلبك، واعلمي أنه يجب على المسلم أن يحسن الظن بالناس، ويحمل أمورهم على السلامة؛ فقد روى أحمد وأبو داود وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسن الظن من العبادة. والحديث ضعف إسناده الألباني، ولكن معناه صحيح، ولا شك.
وقد جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود: ( حسن الظن) أي بالمسلمين، وبالله تعالى (من حسن العبادة) أي من جملة حسن العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى. وفائدة هذا الحديث الإعلام بأن حسن الظن عبادة من العبادات الحسنة، كما أن سوء الظن معصية من معاصي الله تعالى، كما قال تعالى: إن بعض الظن إثم. أي وبعضه حسن من العبادة. كذا في السراج المنير. انتهى.
وأما سوء الظن بالمسلمين، فهو محرم؛ لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم {الحجرات:12}. وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث. لكن المحرم هو تحقيق سوء الظن بمسلم معين دون ريبة، لا مجرد ما يدور في النفس دون أن يستقر فيها.
فقد جاء في شرح مسلم للنووي، في الكلام على حديث أبي هريرة: المراد النهي عن ظن السوء.
قال الخطابي: هو تحقيق الظن، وتصديقه دون ما يهجس في النفس؛ فإن ذلك لا يملك.
ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر؛ فإن هذا لا يكلف به. كما سبق في حديث: تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة ما لم تتكلم، أو تعمد. وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر، ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه، وتكلم به. فإن لم يتكلم، لم يأثم. اهـ.
ولعل من المفيد أن نذكر بما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم. أخرجه مسلم.
قال النووي: روي أهلكهم على وجهين مشهورين، رفع الكاف، وفتحها. والرفع أشهر، ويؤيده أنه جاء في رواية رويناها في حلية الأولياء، في ترجمة سفيان الثوري، فهو من أهلكهم. قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين: الرفع أشهر، ومعناها أشدهم هلاكا.
وأما رواية الفتح، فمعناها هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة. واتفق العلماء على أن هذا الذم، إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس، واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم؛ لأنه لا يعلم سر الله في خلقه. قالوا: فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه، وفي الناس من النقص في أمر الدين، فلا بأس عليه. كما قال أنس: لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا. هكذا فسره الإمام مالك، وتابعه الناس عليه.
وقال الخطابي: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساويهم، ويقول فسد الناس، وهلكوا ونحو ذلك. فإذا فعل ذلك، فهو أهلكهم: أي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم .اهـ.
وعلى كل حال: فتلك النظرة التشاؤمية، قد تؤثر سلبا على نفسية الإنسان وطمأنينة قلبه، وتحول بينه وبين كثير من أبواب الخير المتعلقة بالعباد، من حسن الخلق معهم، والإحسان إليهم، وسلامة الصدر نحوهم.
ولا يأمن المرء أن يتقدم به الحال، فينتهي إلى وسوسة تقوده إلى العزلة والانقطاع، فنصيحتنا لك أن تخرجي من تلك الحال، وأن تجاهدي نفسك في التخلص من تلك النظرة للناس، وفسخ عقدك لا يعني نهاية المطاف في الحياة، وليس من الصواب بحال أن تجعلي الأصل في الناس السوء من أجل أن رجلا واحدا أساء إليك.
والله أعلم.