الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الحيات عدة أحاديث؛ منها الأمر بقتلها مطلقا؛ كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب على المنبر يقول: اقتلوا الحيات.. الحديث.
ومنها ما يأمر بإنذارها والتحريج عليها ثلاث مرات، وفي بعض الأحاديث ثلاثة أيام؛ فقد جاء في سنن أبي داود عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الهوام من الجن؛ فمن رأى في بيته شيئا فليحرج عليه ثلاث مرات، فإن عاد فليقتله فإنه شيطان".
وفي الصحيحين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل الحيات في البيوت حتى تنذر ثلاث مرات.
وفي الحديث أيضا: إن لهذه البيوت عوامر؛ فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا, فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر. رواه مسلم.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن بالمدينة جنا قد أسلموا؛ فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان".
وقد اختلف أهل العلم في المراد بتكرار الإنذار ثلاثا؛ فقد جاء فتح الباري لابن حجر (6/ 349):
وعند مسلم من حديث أبي سعيد مرفوعا: إن لهذه البيوت عوامر؛ فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليه ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه. واختلف في المراد بالثلاث؛ فقيل: ثلاث مرات. وقيل: ثلاثة أيام. اهـ.
ورجح ابن العربي أنه يكون ثلاث مرات؛ فقد قال في أحكام القرآن في الكلام على الجن: قال القاضي : ثبت في الصحيح: {أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مع أصحابه في غار, وهو يقرأ: {والمرسلات عرفا} وإن فاه لرطب بها, حتى خرجت حية من غار, فبادرناها, فدخلت جحرا, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وقيت شركم, ووقيتم شرها، ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بإنذار ولا تحريج}؛ لأنها لم تكن من عوامر البيوت. وأمر في الصحيح وغيره بقتل الحيات مطلقا من غير إنذار ولا تحريج, فدل على أن ذلك من الإنذار إنما هو لمن في الحضر, لا لمن يكون في القفر, وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة, لقوله في الصحيح: إن بالمدينة جنا أسلموا. وهذا لفظ مختص بها, فتختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها; لأنه لم يعلل بحرمة المدينة, فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها, وإنما علل بالإسلام, وذلك عام في غيرها, ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذين لقي; فروي أنهم كانوا من جن الجزيرة, وهذا بين يعضده قوله: ونهى عن عوامر البيوت, وهذا عام.
المسألة الخامسة: اختلف الناس في إنذارهم والتحريج [عليهم]: هل يكون ثلاثة أقوال في ثلاثة أحوال، أم يكون ثلاثة أقوال في حالة واحدة؟ والقول محتمل لذلك ولا يمكن حمله على العموم؛ لأنه إثبات لمفرد في نكرة, وإنما يكون العموم في المفردات إذا اتصلت بالنفي حسبما بيناه في أصول الفقه, وفيما سبق هاهنا. والصحيح أنه ثلاث مرات في حالة واحدة; لأنا لو جعلناها ثلاث مرات في ثلاث حالات لكان ذلك استدراجا لهن وتعريضا لمضرتهن, ولكن إذا ظهرت تنذر كما تقدم, فإن فرت وإلا أعيد عليها القول، فإن فرت وإلا أعيد عليها الإنذار ثلاثا, فإن فرت وإلا أعيد لها الإنذار, فإن فرت وغابت وإلا قتلت.
المسألة السادسة: قال من لم يفهم أو من لم يسلم: كيف ينذر بالقول ويحرج بالعهد على البهائم والحشرات, وهي لا تعقل الأقوال, ولا تفهم المقاصد والأغراض؟ قلنا: الحيات على قسمين؛ قسم حية على أصلها, فبيننا وبينها العداوة الأصلية في معاضدة إبليس على آدم, وإلى هذا وقعت الإشارة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما سالمناهن منذ حاربناهن. فهذا القسم يقتل ابتداء من غير إنذار ولا إمهال وعلامته البتر والطفى؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: {اقتلوا الأبتر وذا الطفيتين}; فإن كانت على غير هذه الهيئة احتمل أن تكون حية أصلية, واحتمل أن تكون جنيا تصور بصورتها, فلا يصح الإقدام بالقتل على المحتمل, لئلا يصادف منهيا عنه حسبما يروى للعروس بالمدينة حين قتل الحية, فلم يعلم أيهما كان أسرع موتا هو أم الحية. ويكشف هذا الخفاء الإنذار, فإن أصر كان علامة على أنه ليس بمؤمن, أو أنه من جملة الحيات الأصليات؛ إذ لم يؤذن للجن في التصور على البتر والطفى, ولو تصورت في هذا كتصورها في غيره لما كان لتخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإطلاق بالقتل في ذين، والإنذار في سواهما معنى ... اهـ.
والله أعلم.