الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا حكم عمل التقويم للأسنان في فتاوى كثيرة، وذكرنا أن ذلك جائز حيث كان للعلاج والمداواة وإزالة عيب من اعوجاج أو نحوه، وأما إذا كان لمجرد التحسين والتجميل فلا يجوز، وانظري الفتوى رقم: 108098، فأنت أدرى بنفسك هل تعد حالة أسنانك عيبا وشينا يستحق العلاج، أم ليست كذلك؟.
وأما ما يتعلق بحديث عبد الله بن مسعود: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله تعالى مالي لا ألعن من لعن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله: {وما آتاكم الرسول فخذوه} متفق عليه.
فقد جاء في شرح ابن بطال في بيان معنى المتفلجات: والمتفلجة: هي المفرقة بين أسنانها المتلاصقة بالنحت لتبعد بعضها من بعض، والفلج: تباعد ما بين الشيئين يقال: منه رجل أفلج، وامرأة فلجاء. اهـ.
فتقويم الأسنان ليس هو فلجها الوارد في الحديث، لكن التقويم داخل في المعنى الذي نهي عن الفلج من أجله، وهو تغيير خلقة الله التي خلق الله الإنسان عليها، فيلحق به، قال الطبري: في هذا الحديث البيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز لامرأة تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة فيه أو نقص منه التماس التحسن به لزوج أو غيره، لأن ذلك نقض منها خلقها إلى غير هيئته، وسواء فلجت أسنانها المستوية البنية ووشرتها، أو كانت لها أسنان طوال فقطعت طلبا للحسن، أو أسنان زائدة على المعروف من أسنان بني آدم فقلعت الزوائد من ذلك بغير علة إلا طلب التحسن والتجمل، فإنها في كل ذلك مقدمة على ما نهى الله تعالى عنه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كانت عالمة بالنهي عنه. اهـ. من شرح ابن بطال.
وأما الحكمة من تحريم تقويم الأسنان فتؤخذ من حكمة تحريم الأصل الذي ألحق به ـ الذي هو الفلج ـ والحكمة من النهي عن الفلج جاءت منصوصة في الحديث، وهي تغيير خلق الله، قال الطيبي: وقوله: (المغيرات خلق الله) كالتعليل لوجوب اللعن. اهـ. من شرح المشكاة .
ومع ذلك فقد استنبط بعض العلماء حكما أخرى للنهي، قال الخطابي: إنما ورد الوعيد الشديد في هذه الأشياء لما فيها من الغش والخداع، ولو رخص في شيء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغش، ولما فيها من تغيير الخلقة وإلى ذلك الإشارة في حديث بن مسعود بقوله: المغيرات خلق الله. اهـ. من فتح الباري .
وقال ابن هبيرة: وإنما منع من هذا لأنه غرور، ويؤدي إلي ضرر، فإن الواشمة تؤذي نفسها بالجراح، والمتنمصة تنتف شعرها، فلا يؤمن أذى البشرة، وكذلك المتفلجات للحسن فربما حصل الأذى بالمبرد، ويجمع ذلك كله قوله (المغيرات خلق الله). اهـ. من الإفصاح .
وليعلم أن التماس وجه الحكمة من الأوامر والنواهي الشرعية مشروع، ما دام المقصود بذلك طمأنينة القلب للحكم الشرعي، لكن لا يسوغ للمسلم أن يجعل انقياده للحكم الشرعي موقوفا على علمه بالحكمة منه، بل عليه الانقياد والتسليم للحكم الشرعي مطلقا، وإن لم يعلم وجه الحكمة منه، إذ ليس كل حكم شرعي تظهر حكمته للعباد، وما يستنبط أحيانا من الحكم والعلل قد يكون فيه نوع من القصور يجعله عرضة للأخذ والرد، قال ابن عثيمين في فوائد قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين {البقرة:208}، ومنها: قرن الحكم بعلته؛ لقوله تعالى: {لا تتبعوا خطوات الشيطان} ثم علل: {إنه لكم عدو مبين}، ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي لمن أتى بالأحكام أن يقرنها بالعلل التي تطمئن إليها النفس، فإن كانت ذات دليل من الشرع قرنها بدليل من الشرع، وإن كانت ذات دليل من العقل والقياس قرنها بدليل من العقل والقياس، وفائدة ذكر العلة أنه يبين سمو الشريعة وكمالها، وأنها تزيد بها الطمأنينة إلى الحكم، وأنه يمكن إلحاق ما وافق الحكم في تلك العلة. اهـ. من تفسير سورة البقرة .
وقال أيضا: فنهي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الشرعي هو العلة بالنسبة للمؤمن, بدليل قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36], فالمؤمن يقول: سمعنا وأطعنا, ويدل لذلك أن عائشة سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك؛ فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، فبينت أن العلة في ذلك هو الأمر, لكن ذلك لا يمنع أن يتطلب الإنسان الحكمة المناسبة؛ لأنه يعلم أن أوامر الشرع ونواهيه كلها لحكمة، فما هي الحكمة؟ وسؤال الإنسان عن الحكمة في الأحكام الشرعية أو الجزائية أمر جائز، بل قد يكون مطلوبا إذا قصد به العلم، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في النساء: إنكن أكثر أهل النار، قلن: بم يا رسول الله؟ فسألن عن الحكمة؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن, وتكفرن العشير, وأما إذا قصد أنه إن بانت العلة امتثل وإلا فلا، فالسؤال حينئذ حرام؛ لأنه لازمه قبول الحق إن وافق هواه، وإلا فلا. اهـ. من الشرح الممتع .
والله أعلم.