السؤال
كنت قد أرسلت لكم سؤالا، أسأل فيه عن مصير البشر من جنة أو نار هل هو غيب مطلق أم لا؟
وقد أخبرتموني أن الجنة من الغيب المطلق، وأنا أتساءل: كيف تكون الجنة من الغيب المطلق، وجميع ملائكة السماء يعرفون مصائر البشر من جنة، أو نار، طبقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا أحب عبدا، نادى جبريل: يا جبريل إني أحبا فلانا، فأحبه، ويحبه كل أهل السماء. وكذلك الحال إذا أبغض عبدا، ينادي جبريل أنه يبغضه؛ فيبغضه أهل السماء كذلك؟
هناك شبهة أصابتني في الدين بخصوص حديث قاتل المائة نفس. كيف تختصم فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ومن المفترض أنهم يعلمون ما إذا كان الله يحبه، أو يبغضه طبقا للحديث السابق؟!
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالمراد بالفتوى السابقةـ وهي رقم: 286270ـ كما هو عنوانها أن: "دخول الجنة أمر غيبي، لا يقطع فيه برؤيا، أو إلهام". فالمراد نفيه، هو القطع والجزم بذلك، لا مجرد الاستبشار، ورجاء أن يكون من مات على حال معينة، من أهل الجنة.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا، فأحببه؛ فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا، فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. رواه البخاري، ومسلم.
فيدل على علم ملائكة السماء الذين ناداهم جبريل، بمحبة الله تعالى لعبد من عباده في هذا الوقت، ولا يلزم من هذا دوام هذه المحبة، وذلك البغض، ولا معرفة جميع الملائكة بحقيقة حال العبد، وعاقبته؛ لأن الملائكة أصناف متعددة. ويدل على ذلك الحديث الذي ذكره السائل، في الرجل الذي قتل مائة نفس.
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث من (فتح الباري): فيه أن الملائكة الموكلين ببني آدم، يختلف اجتهادهم في حقهم بالنسبة إلى من يكتبونه مطيعا، أو عاصيا، وأنهم يختصمون في ذلك، حتى يقضي الله بينهم. اهـ.
وقال ابن الملقن في (التوضيح): فيه: اختصام الملائكة، واطلاع ملائكة الرحمة على ما في قلبه من صحة توبته، وأن ذلك خفي على ملائكة العذاب. اهـ.
ثم ينبغي أن يعلم أن محبة الله تعالى، وبغضه، ورضاه، وسخطه، هي صفات متعلقة بمشيئة الله تعالى، فيحدث منها ما يشاء، فيحب العبد إذا آمن وعمل صالحا، فإذا كفر وعمل غير صالح، أبغضه بعد أن كان يحبه، والعكس كذلك. وهو سبحانه يعلم بكلا الحالين أزلا، وعاقبة الصنفين سلفا، فلا بداء في ذلك على الله أبدا.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الكلابية وغيرهم ممن يوجبون الاستثناء في الإيمان: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا، وكافرا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. فالإيمان الذي يتعقبه الكفر، فيموت صاحبه كافرا، ليس بإيمان، وكذلك قالوا في الكفر. ويقولون: إن الرضى، والسخط، والغضب ونحو ذلك، صفات ليست هي الإرادة، كما أن السمع، والبصر ليس هو العلم، وكذلك الولاية، والعداوة.
قال شيخ الإسلام: هذه كلها صفات قديمة، أزلية عند أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ومن اتبعه من المتكلمين، ومن أتباع المذاهب من الحنبلية، والشافعية، والمالكية وغيرهم. قالوا: والله يحب في أزله من كان كافرا، إذا علم أنه يموت مؤمنا. فالصحابة ما زالوا محبوبين لله، وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه، وإن كان لم يكفر بعد ...
وهذا القول، قاله كثير من أهل الكلام أصحاب ابن كلاب، ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة، لكن ليس هذا قول أحد من السلف، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان، يعللون بهذا، لا أحمد، ولا من قبله. اهـ.
وذكر ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية نحو ذلك، وقال: ليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد، فإن الله تعالى قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فأخبر أنهم يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة. اهـ.
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: هذا النزاع ـ في قوله: {قل يا أيها الكافرون} هل هو خطاب لجنس الكفار، كما قاله الأكثرون؟ أو لمن علم أنه يموت كافرا، كما قاله بعضهم؟ ـ يتعلق بمسمى " الكافر" ومسمى"المؤمن". فطائفة تقول: هذا إنما يتناول من وافى القيامة بالإيمان، فاسم المؤمن عندهم إنما هو لمن مات مؤمنا. فأما من آمن ثم ارتد، فذاك ليس عندهم بإيمان. وهذا اختيار الأشعري، وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. وهكذا يقال: الكافر من مات كافرا. وهؤلاء يقولون: إن حب الله، وبغضه، ورضاه، وسخطه، وولايته، وعداوته، إنما يتعلق بالموافاة فقط. فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنا. ويرضى عنه، ويواليه بحب قديم، وموالاة قديمة. ويقولون: إن عمر حال كفره، كان وليا لله. وهذا القول معروف عن ابن كلاب، ومن تبعه كالأشعري وغيره. وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا، فيقولون: بل قد يكون الرجل عدوا لله، ثم يصير وليا لله، ويكون الله يبغضه، ثم يحبه. وهذا مذهب الفقهاء، والعامة. وهو قول المعتزلة، والكرامية، والحنفية قاطبة، وقدماء المالكية، والشافعية، والحنبلية. وعلى هذا يدل القرآن كقوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. {وإن تشكروا يرضه لكم}. وقوله: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا} فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر. وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يغفر لهم ما قد سلف. وقال: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} وقال: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}. وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: تقول الأنبياء: "إن ربي قد غضب غضبا، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله". اهـ.
وقال ابن القيم في (الصواعق المرسلة): سميتم ـ يعني المعطلةـ كلامه بمشيئته، ونزوله إلى سماء الدنيا، وغضبه إذا عصي، ورضاه إذا أطيع، وفرحه إذا تاب إليه العباد، ونداءه لموسى حين أتى إلى الشجرة. ومحبته لمن كان يبغضه في حال كفره، ثم صار يحبه بعد إيمانه ... ـ: حوادث. وقلتم: الرب منزه عن حلول الحوادث! وحقيقة هذا التنزيه، أنه منزه عن الوجود، وعن الإلهية، وعن الربوبية، وعن الملك، وعن كونه فعالا لما يريد، بل عن الحياة، والقيومية. اهـ.
وقال الشيخ الدكتور ناصر العقل، في شرح الطحاوية: هذا القول عند الكلابية، فرع عن اعتقادهم أن أفعال الله عز وجل -ومنها المحبة، والرضا، والنزول، والكلام وغير ذلك- أزلية، قائمة بالذات، غير مرتبطة بالمشيئة، فلذلك قالوا بهذه اللوازم، فجعلوا الحب، والبغض لله عز وجل، والكلام، من الصفات اللازمة التي لا يحدث لله منها شيء ... فالتزامهم لهذا الأصل، هو الذي جعل بعضهم يقولون بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، وبملازمة المحبة للشخص منذ نشأته إلى وفاته، حتى وإن انقلب من الإيمان إلى الكفر، أو من الكفر إلى الإيمان، فبحسب خاتمته تكون المحبة، والبغض؛ لأنهم يرون أن الله عز وجل لا ترتبط محبته بمشيئته، فهم يرون أن تعلق أفعال الله بالمشيئة، يعني أن الله يطرأ له شيء لم يكن، وهذا قياس لله عز وجل على خلقه، فالخلق هم الذين تطرأ عليهم هذه الطوارئ، ويطرأ عليهم البداء ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه منفي عن الله عز وجل ... اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي في (شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد): قالوا: إن الله يحب من علم أنه يموت على الإيمان ولو كان كافرا، وإن الله يبغض من يموت على الكفر ولو كان مؤمنا، أي أن الكافر الذي علم الله أنه يموت على الإيمان، يحبه الله ولو في وقت كفره، وهذا باطل، ليس بصحيح. والذي يطيع الله وقد علم أنه يموت على الكفر، يبغضه الله ولو كان مطيعا ... وهذا ليس بصحيح، بل هو باطل؛ فالمؤمن المطيع يحبه الله في حال طاعته، فإذا عصى، صار مبغوضا من الله. اهـ.
وقال الشيخ الدكتور عبد الرزاق البدر في كتابه: (زيادة الإيمان، ونقصانه، وحكم الاستثناء فيه): لهذه المسألة تعلقا بمسألة الرضا، والسخط، هل هو قديم، أو محدث؟ بمعنى أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافرا، وبالعكس هل يتعلق رضا الله، وسخطه، ومحبته، وبغضه بما هو عليه، أو بما يوافي به؟
فهم يقولون: إن محبة الله، ورضاه، وسخطه، وبغضه قديم ...
أما جمهور أهل العلم، فيقولون: الولاية، والعداوة وإن تضمنت محبة الله، ورضاه، وبغضه، وسخطه فهو سبحانه يرضى عن الإنسان، ويحبه بعد أن يؤمن، ويعمل صالحا، وإنما يسخط عليه، ويغضب بعد أن يكفر، كما قال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} فأخبر أن الأعمال أسخطته، وكذلك قال: {فلما آسفونا انتقمنا منهم}. قال المفسرون: أغضبونا. وكذلك قال تعالى: {وإن تشكروا يرضه لكم}. وغير ذلك من النصوص الدالة على أن غضب الله، وسخطه، ورضاه، وحبه يكون بعد حصول ما يقتضي ذلك من العبد، فالله يبغض العبد إذا حصل منه الكفر، ويحبه إذا حصل منه الإيمان. اهـ.
وعلى ذلك، فلا إشكال في بغض الله تعالى لقاتل المائة نفس قبل توبته، ثم محبته إياه بعدها.
والله أعلم.