السؤال
ما حكم من استدل بقوله تعالى: "إن الله هو الغني الحميد" على أن الله مستغن عن صفاته، وأنه لا يحتاج إليها؟
وجزاكم الله خيرا.
ما حكم من استدل بقوله تعالى: "إن الله هو الغني الحميد" على أن الله مستغن عن صفاته، وأنه لا يحتاج إليها؟
وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا وهم باطل، فالذات الإلهية متصفة بصفات الكمال، وليس ثم ذات مجردة عن الصفات، كما أن الصفات لا توجد قائمة بنفسها متجردة عن الذات، ولا يتصور وجودها كذلك إلا في الذهن، وأما في الخارج فليس لها وجود، وحسبك في هذا أن تعلم أن من الصفات ما لا يتصور وجود الذات بدونها، كصفة الوجود وصفة الحياة!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والتحقيق أن الذات الموصوفة لا تنفك عن الصفات أصلا، ولا يمكن وجود ذات خالية عن الصفات. فدعوى المدعي وجود حي عليم قدير بصير، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حيا عليما قديرا، بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو محدث عري عن جميع الصفات ممتنع في صريح العقل. ولكن الجهمية المعتزلة وغيرهم لما أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات صار مناظرهم يقول: أنا أثبت الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات، أي لا أقتصر على مجرد إثبات ذات بلا صفات، ولم يعن بذلك أنه في الخارج ذات ثابتة بنفسها، ولا مع ذلك صفات هي زائدة على هذه الذات متميزة عن الذات، ولهذا كان من الناس من يقول: الصفات غير الذات، كما يقوله المعتزلة والكرامية، ثم المعتزلة تنفيها، والكرامية تثبتها، ومنهم من يقول: الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره، كما يقوله طوائف من الصفاتية كأبي الحسن الأشعري وغيره، ومنهم من يقول كما قالت الأئمة: لا نقول الصفة هي الموصوف، ولا نقول: هي غيره؛ لأنا لا نقول: لا هي هو، ولا هي غيره، فإن لفظ الغير فيه إجمال، قد يراد به المباين للشيء، أو ما قارن أحدهما الآخر، وما قاربه بوجود أو زمان أو مكان، ويراد بالغير: أن ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر، وعلى الأول فليست الصفة غير الموصوف، ولا بعض الجملة غيرها، وعلى الثاني فالصفة غير الموصوف وبعض الجملة غيرها، فامتنع السلف والأئمة من إطلاق لفظ الغير على الصفة نفيا أو إثباتا؛ لما في ذلك من الإجمال والتلبيس. اهـ.
وقال في موضع آخر: سبب ذلك أن لفظ "الغير" مجمل، يراد بالغير: المباين المنفصل، ويراد بالغير: ما ليس هو عين الشيء، وقد يعبر عن الأول بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود، ويعبر عن الثاني بأنه ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر، وبين هذا وهذا فرق ظاهر، فصفات الرب اللازمة له لا تفارقه البتة، فلا تكون غيرا بالمعنى الأول، ويجوز أن تعلم بعض الصفات دون بعض، وتعلم الذات دون الصفة، فتكون غيرا باعتبار الثاني، ولهذا أطلق كثير من مثبتة الصفات عليها أغيارا للذات، ومنهم من قال: نقول إنها غير الذات، ولا نقول إنها غير الله، فإن لفظ الذات لا يتضمن الصفات بخلاف اسم الله فإنه يتناول الصفات، ولهذا كان الصواب ـ على قول أهل السنة ـ أن لا يقال في الصفات: إنها زائدة على مسمى اسم الله، بل من قال ذلك فقد غلط عليهم، وإذا قيل: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ كان الجواب: إن الذات الموجودة في نفس الأمر مستلزمة للصفات فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات، بل ولا يوجد شيء من الذوات مجردا عن جميع الصفات... اهـ.
وقال شارح الطحاوية: وكذلك مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير، فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له، ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، وإذا كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها ـ فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة ـ فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتا وصفة، كلا وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال، ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتا ووجودا، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج، وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، هذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد، والتحقيق أن يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله، فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى الله يدخل فيه صفته بخلاف مسمى الذات، فإنه لا يدخل فيه الصفات؛ لأن المراد أن الصفات زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات، والله تعالى هو الموصوف بالذات الموصوفة بصفاته اللازمة. اهـ.
والله أعلم.