السؤال
كما نعلم جميعا في الفترة الأخيرة وبسبب تدهور الأوضاع في سوريا، فإن الكثير من الناس يختارون السفر إلى الدول الأوربية بطريقة غير نظامية عن طريق قوارب في البحر، وللأسف لعدم أمانها وملئها بأكثر مما تستوعب من الأشخاص، فإن بعض القوارب تغرق ويموت من فيها غرقا ـ رحمة الله عليهم ـ فهل سفرهم بتلك الطريقة يعد انتحارا، لعلم الجميع باحتمال الغرق والموت، ورغم ذلك أقدموا على السفر؟ أم يعتبرون من الشهداء، لأنهم غرقوا؟ وإن كانت الأولى، فهل هذا يعني أنه علينا الامتناع عن السفر هكذا حتى لا نحاسب حساب المنتحر في يوم القضاء!؟.
وجزاكم الله كل خير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالانتحار هو قتل الإنسان نفسه، وعليه فلا يعد هذا الفعل انتحارا، ولكن ليس معنى ذلك خلو ذمة فاعله من التبعة، فإن العبد مطالب بحفظ نفسه من أسباب الهلاك وعدم التغرير بها والإعانة على إزهاقها، وقد جاء في الحديث: من بات فوق بيت ليس له إجار فوقع فمات، فبرئت منه الذمة، ومن ركب البحر عند ارتجاجه فمات، فقد برئت منه الذمة. رواه أحمد وحسنه الألباني.
قال ابن بطال في شرح البخاري: معناه ـ إن شاء الله: فقد برئت منه ذمة الحفظ، لأنه ألقى بيده إلى التهلكة وغرر بنفسه، ولم يرد فقد برئت منه ذمة الإسلام، لأنه لا يبرأ أحد من الإسلام إلا بالكفر. اهـ.
ولذلك نقل جمع من أهل العلم اتفاق العلماء على أن البحر لا يجوز ركوبه حين ارتجاجه، منهم ابن عبد البر في التمهيد، والقاضي عياض في إكمال المعلم، وابن الملقن في التوضيح، وقال ابن بطال: أما إذا كان إبان ارتجاجه، فالأمة مجمعة أنه لا يجوز ركوبه، لأنه تعرض للهلاك، وقد نهى الله عباده عن ذلك بقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ـ وبقوله: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما. اهـ.
وكذلك الحكم إذا لم يرتج البحر، ولكن غلب على الظن عدم السلامة بسبب آخر، كتهالك المركب، والزيادة الكبيرة على حمولته عن المعتاد، ونحو ذلك من الأسباب المؤدية إلى الهلاك في البحر، فمن لم يتحرز من مثل ذلك فمات كان عاصيا بسفره في البحر، وفاته بذلك فضل الشهادة بالغرق على الراجح من قولي أهل العلم، قال القرطبي في المفهم: هؤلاء الثلاثة ـ يعني الحريق والغريق وصاحب الهدم ـ إنما حصلت لهم مرتبة الشهادة لأجل تلك الأسباب، لأنهم لم يغرروا بنفوسهم، ولا فرطوا في التحرز، ولكن أصابتهم تلك الأسباب بقضاء الله وقدره، فأما من غرر أو فرط في التحرز حتى أصابه شيء من ذلك فمات، فهو عاص، وأمره إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء عفا. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ركوب البحر للتجارة جائز إذا غلب على الظن السلامة، وأما بدون ذلك فليس له أن يركبه للتجارة، فإن فعل فقد أعان على قتل نفسه، ومثل هذا لا يقال: إنه شهيد. اهـ.
وقال في الفتاوى الكبرى: من أراد سلوك طريق يستوي فيها احتمال السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها، فإن لم يكف فيكون أعان على نفسه، فلا يكون شهيدا. اهـ.
وقال ابن قاسم في حاشية الروض المربع: من غلب على ظنه عدم السلامة، ليس له ركوب البحر للتجارة، فإن فعل فغرق فيه لا يقال: إنه شهيد. اهـ.
وإنما قلنا: على الراجح من قولي أهل العلم، لأن منهم من نص على أن المعصية بمثل هذا السفر لا تمنع الشهادة، وإن كان صاحبها آثما، قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: استثنى بعضهم من الغريق العاصي بركوبه البحر، كأنه كان الغالب فيه عدم السلامة، أو استوى الأمران، أو ركبه لشرب خمر... والظاهر كما قال الزركشي ... أن ما ذكر لا يمنع الشهادة. اهـ.
وقال البجيرمي في حاشيته على الإقناع شرح الخطيب: قوله: كالغريق ـ أي ولو كان عاصيا بركوب البحر، كأن ركب سفينة لا يسير مثلها في ذلك البحر لصغرها أو ثقلها، والعصيان بالتعدي بالركوب في هذه الحالة لا ينافي حصول الشهادة. اهـ.
والراجح أن حصول أجر الشهادة بالغرق مقيد بإباحة السفر، وراجع للفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 9262، 192363، 7263، 173323.
والله أعلم.