الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا النص المنقول من كتاب الفوائد لابن القيم فيه فوائد عظيمة، ومعنى اجتماع قلب العبد عليه: استحضاره لمعاني الدعاء، وخشوعه فيه، وإقباله على الله، وإخلاصه له، من غير غفلة، وذلك بأن لا يكون الدعاء بلسانه دون قلبه، كما روي في الحديث: القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله عز وجل، أيها الناس، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل. رواه أحمد.
ولهذا قال ابن القيم نفسه ـ وكلامه يفسر بعضه بعضا ـ في كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ـ: وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه: إما لضعفه في نفسه: بأن يكون دعاء لا يحبه الله؛ لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله، وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا، فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو، وغلبتها عليها . اهـ كلامه.
وذلك كما أمر الله تعالى في قوله: فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون {غافر:14}.
وأما قول ابن القيم: وصدقت ضرورته، وفاقته ـ فذلك لأن من صدقت ضرورته، وفاقته ـ والفاقة: الحاجة ـ فإنه غالبا ما يخلص الدعاء بقلب مجتمع خاشع صادق، كما قال الله تعالى: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين {يونس:22}، وقوله: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور {لقمان:32}.
فمن كان كذلك استجاب الله له دعاءه، وإن علم من بعضهم كفره بنعمته عليه بعد ذلك، كما قال تعالى: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض {فصلت:51}.
فإن الله يجيب دعاء المضطر في الدنيا متى دعاه بصدق وإخلاص وإن كان كافرا، قال تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون {النمل:62}.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: والخلق كلهم يسألون الله، مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار، فإن الكفار يسألون الله الرزق، فيرزقهم، ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه فلما نجاهم إلى البر أعرضوا، وكان الإنسان كفورا. اهـ.
وأما قول ابن القيم: وقوي رجاؤه ـ أي: وقوي ظنه إجابة الله دعاءه، وبلغ في ذلك مرتبة اليقين، أو قريبا منها، كما مر في الحديث: فإذا سألتم الله عز وجل، أيها الناس، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة.
وقد قال الله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون {البقرة:186}.
والإيمان بكون الله يستجيب الدعاء في الجملة لا يكون إلا بيقين، أو قريب منه، كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن معنى الآية: وليؤمنوا بي ـ أنهم إذا دعوني استجبت لهم.
وليكن العبد على يقين تام أن الله إن لم يجب دعاءه في الدنيا، فإنه مستجيب له في الآخرة لا محالة، كما في الحديث: ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له: فإما أن يعجل في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، أو يستعجل، قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي فما استجاب لي.
فلهذا قال ابن القيم: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته، وفاقته، وقوي رجاؤه، فلا يكاد يرد دعاؤه.
والله أعلم.