الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة من أئمة السلف والخلف: أن الله عز وجل لم يزل متكلما بما شاء إذا شاء، وأن كلامه بحرف وصوت لا كالمخلوقين، يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأن موسى لما كلمه الله في الدنيا سمع كلامه بصوت لا كصوت المخلوقين، وحرف يفهمه، وبهذا اختص عن غيره من الأنبياء، فسمي كليم الله، كما في الصحيحين في حديث الشفاعة: فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا بهما، قال: قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان.
قال الإمام البخاري مبوبا في صحيحه: باب قول الله تعالى: لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ـ ولم يقل: ماذا خلق ربكم، قال جل ذكره: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ـ وقال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت، عرفوا أنه الحق ونادوا: ماذا قال ربكم قالوا الحق ـ ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان. انتهى كلام البخاري رحمه الله.
فبمقتضى هذه الأحاديث والآثار كان اعتقاد أهل السنة والجماعة في كلام الله، وقد بين ذلك الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة، الذي نصر الله به الأمة في محنة الجهمية في كلام الله، قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه السنة: سئل ـ أي الإمام أحمد ـ عما جحدته الجهمية الضلال من كلام رب العالمين عز وجل، ثم قال: سألت أبي ـ رحمه الله ـ عن قوم يقولون: لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت! فقال أبي: بلى، إن ربك عز وجل تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان، قال أبي: وهذا الجهمية تنكره، وقال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، ألا إنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت. اهـ.
وهو الإمام المتبع المتبع في هذا الباب، الذي اختاره الله ليقف أمام جحافل الجهمية، ويبين للناس الاعتقاد الحق لسلفه حتى نصره الله وأظهر الحق على يديه، قال الإمام ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في كتابه صريح السنة: لما تكلم عن كلام الله: وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن، فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا تابعي قضى، إلا عمن في قوله الغناء والشفاء رحمة الله عليه ورضوانه، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله لدينا مقام قول الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه... ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله، إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمنع، وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه. اهـ.
وكذا قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في كتابه خلق أفعال العباد لما ذكر حديث عبد الله بن أنيس: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل: فلا تجعلوا لله أندادا {البقرة: 22} فليس لصفة الله ند، ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين. اهـ.
فهل بعد هذين الإمامين العظيمين إمام أعلم منهما باعتقاد السلف وأقاويلهم فيتبع في هذا دونهما؟! قال الله عز وجل: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم {التوبة:100}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصواب الذي عليه سلف الأمة ـ كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في ـ كتاب خلق أفعال العباد وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم: اتباع النصوص الثابتة وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسما لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد؛ بل مجموعهما، وأن الله تعالى يتكلم بصوت، كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القارئ ولا غيره، وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته: فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد، فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته. اهـ.
وذلك في تكليم الله موسى وغير موسى، كما مر في كلام الإمام أحمد، وقد قال الإمام أبو نصر السجزي في رسالته إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص: 252 ـ وقال الله تعالى: وإذ نادى ربك موسى ـ وقال تعالى: هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ـ وقال جل جلاله: فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ـ والنداء عند العرب صوت لا غير، ولم يرد عن الله تعالى ولا عن رسوله عليه السلام أنه من الله غير صوت، ولا خلاف بيننا في أن موسى مكلم بلا واسطة. اهـ.
وقال أيضا في كتابه الإبانة في مسألة القرآن: وقد بين الله في كتابه ما لا إشكال بعده في هذا الفصل لما قال: وإذ نادى ربك موسى {الشعراء: 10} والعرب لا تعرف نداء إلا صوتا، وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك، فإن أنكروا الظاهر كفروا، وإن قالوا: إن النداء غير صوت، خالفوا لغات العرب، وإن قالوا: نادى الأمير، إذا أمر غيره بالنداء، دفعوا فضيلة موسى عليه السلام المختصة به من تكليم الله إياه من غير واسطة ولا ترجمان، وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق، كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه... فنقول: كلام الله حرف وصوت بحكم النص... وليس ذلك عن جارحة ولا آلة، وكلامنا حروف وأصوات، لا يوجد ذلك منا إلا بآلة، والله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء، لا يشغله شيء عن شيء، والمتكلم منا لا يتأتى منه أداء حرفين إلا بأن يفرغ من أحدهما ويبتدئ في الآخر. اهـ. نقله ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل:2ـ 93.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أخبر الله به في كتابه من تكليم موسى وسمع موسى لكلام الله يدل على أنه كلمه بصوت، فإنه لا يسمع إلا الصوت، وذلك أن الله قال في كتابه عن موسى: فاستمع لما يوحى، وقال في كتابه: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ـ ففرق بين إيحائه إلى سائر النبيين وبين تكليمه لموسى، كما فرق أيضا بين النوعين في قوله: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ـ ففرق بين الإيحاء والتكليم من وراء حجاب، فلو كان تكليمه لموسى إلهاما ألهمه موسى من غير أن يسمع صوتا.. لم يكن فرق بين الإيحاء إلى غيره والتكليم له، فلما فرق القرآن بين هذا وهذا وعلم بإجماع الأمة ما استفاضت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيص موسى بتكليم الله إياه، دل ذلك على أن الذي حصل له ليس من جنس الإلهامات وما يدرك بالقلوب، إنما هو كلام مسموع بالآذان، ولا يسمع بها إلا ما هو صوت. اهـ.
وقال أيضا: فليس ما يسمع من العباد من أصواتهم مشابها ولا مماثلا لما سمعه موسى من صوته إلا كما يشبه ويماثل غير ذلك من صفاته لصفات المخلوقين، فهذا في نفس تكلمه سبحانه وتعالى بالقرآن، والقرآن عند الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كلامه تكلم به، وتكلم بالقرآن العربي بصوت نفسه، وكلم موسى بصوت نفسه الذي لا يماثل شيئا من أصوات العباد. اهـ.
فهذا اعتقاد أئمة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، ولزيادة الفائدة راجع الفتوى رقم: 210736، ففيها مسألة غاية في الأهمية في هذا الباب.
والله أعلم.