السؤال
أحسن الله اليكم ـ أريد حصرا للأمور الخلافية المشهورة التي يجب ويلزم الإنكار فيها؟ حيث القول الآخر إما حجته ضعيفة أو شديدة الضعف فلا يعتد بها، وإما هو أصلا منكر أو شاذ فلا يعتد أيضا ولا يجوز الأخذ به، وليس في الإنكار عليه تعصب أو تشدد، هل من نقاط لهذه المسائل علي سبيل الحصر للمشهور جدا والشائع منها؟ أو كتب تتكلم عن الموضوع بالإجمال أو بالتفصيل؟ موضوع: الواجب ـ أو ما يجب ـ الإنكار فيه من مسائل الخلاف، مع العلم أني علمت أنه يستحب الإنكار على مرجوح في خلافات معينة، والتناصح برفق بالراجح، وإنما أسأل الآن عن ما يكون في المسائل الخلافية الإنكار فيه على وجه الوجوب لا الاستحباب.
وجزاكم الله خيرا وبارك في أوقاتكم وتقبل منا ومنكم صالح الاعمال.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمسائل الخلاف التي يجب فيها الإنكار هي ما كان الخلاف فيه شاذا أي كان الاجتهاد فيه غير معتبر عند أهل العلم بحيث كان مخالفا لنص مقطوع به، وهذا المخالف قد يكون معذورا لعدم ثبوت النص عنده، أو لغير ذلك من الأعذار، ولكن قوله لا يجوز الالتفات إليه ولا التعويل عليه ويجب إنكاره؛ لكون المسألة ليست من مسائل الاجتهاد، وحصر هذه المسائل يعسر جدا، ولا نعلم كتابا عني بحصرها، وإنما يكتفي العلماء المقررون لهذه المسألة بالتمثيل لهذا النوع من المسائل، وقد بين أهل العلم نوع المسائل التي يجب فيها الإنكار وضبطوها بألا تكون من مظان الاجتهاد، فما كان مقطوعا به من المسائل لثبوت نص قطعي فيه أو إجماع فهو النوع الذي يجب فيه الإنكار، وما لم يكن كذلك فلا إنكار فيه إلا بالمناقشة وبيان الحجة بالتي هي أحسن.
قال أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ: الشرط الرابع: أن يكون كونه منكرا معلوما بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي تناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار، إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد. انتهى.
وقال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعا عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه، أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا. واستثنى القاضي في "الأحكام السلطانية" ما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، فإنه ذريعة إلى الزنا، وذكر عن إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحا. انتهى.
وأمثلة هذا النوع من المسائل الواجب فيها الإنكار كثيرة جدا، وحصر هذه المسائل لا يكاد يقدر عليه، ومن ثم اكتفى العلماء ببيان ضابطها والتمثيل لها على ما مر غير متعرضين لحصرها لعسر ذلك جدا، ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في بيان نوع المسائل التي وقع فيها خلاف ثم الإنكار فيها مشروع لضعف الخلاف ووضوح السنة فيها، ومثل لذلك بجملة من الأمثلة، ونحن نسوق كلامه بطوله لنفاسته، قال رحمه الله: وقولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار، إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهدا، أو مقلدا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس - والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها، مثل كون الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل والمتعة حرام، وأن النبيذ حرام، وأن السنة في الركوع الأخذ بالركب، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم ربع دينار، وأن البائع أحق بسلعته إذا أفلس المشتري، وأن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن التيمم يكفي فيه ضربة واحدة إلى الكوعين، وأن المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى. انتهى، فقد صرح بأن هذا النوع من المسائل لا يكاد يحصى، ناهيك عن المجمع عليه مما يجب فيه الإنكار فإنه كثير جدا كذلك.
والله أعلم.