الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الاعتكاف مشروع، ولا سيما إن كان المعتكف يريد نيل الأجر والفضيلة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق. رواه الترمذي في سننه، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
ولا ينبغي لمسلم أن يكون سببا في صد الآخرين عن الطاعة، ولا سببا في حمل الوالد على منع ابنه منها.
ولو أن الوالد أمر ابنه بترك الاعتكاف بسبب حاجته لخدمته أو ليكسب ما يطعم به والديه أو أهله، فيشرع للابن ترك الاعتكاف، وربما كان سعيه في حاجات أهله أفضل من الاعتكاف، ولا سيما إن كانت نفقتهم واجبة عليه، فيجب الكسب الذي يتم به الواجب، وتفادي إثم تضييعهم؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
وفي الحديث عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم؛ تكشف عنه كربة، أو تقضي له دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني: مسجد المدينة- شهرا، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضى، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام. رواه الأصبهاني في الترغيب، وابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.
وقد اختلف في وجوب الاعتكاف بعد الشروع فيه، والذي عليه الجمهور: أنه لا يجب بالشروع؛ قال ابن قدامة في المغني: وسائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام؛ في أنها لا تلزم بالشروع, ولا يجب قضاؤها إذا خرج منها, إلا الحج والعمرة؛ فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا, لتأكد إحرامهما, ولا يخرج منهما بإفسادهما ... اهـ.
وقال أيضا: وإن نوى اعتكاف مدة لم تلزمه, فإن شرع فيها فله إتمامها, وله الخروج منها متى شاء. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: تلزمه بالنية مع الدخول فيه, فإن قطعه لزمه قضاؤه ... اهـ.
وفي الموسوعة الفقهية: لا يجب الاعتكاف إلا بالنذر عند الجمهور منجزا أو معلقا، وبالشروع في الاعتكاف المسنون عند المالكية، ومقابل الظاهر عند الحنفية. اهـ.
وأما إن لم يكن للوالد غرض صحيح في الأمر لولده بترك الاعتكاف، فلا طاعة له؛ لأن أمره لغير قصد معتبر؛ قال العلامة ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-: ... وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق لم يلتفت إليه أخذا مما ذكره الأئمة في أمره لولده بطلاق زوجته، وكذا يقال في إرادة الولد لنحو الزهد، ومنع الوالد له أن ذلك إن كان لمجرد شفقة الأبوة فهو حمق وغباوة، فلا يلتفت له الولد في ذلك، وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه يتعين على الولد امتثال أمره إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره، ومحله أيضا حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل، لأني أقيد حل بعض المتأخرين للعقوق بأن يفعل مع والده ما يتأذى به إيذاء ليس بالهين بما إذا كان قد يعذر عرفا بتأذيه به. أما إذا كان تأذيه به لا يعذره أحد به لإطباقهم على أنه إنما نشأ عن سوء خلق وحدة حمق وقلة عقل، فلا أثر لذلك التأذي، وإلا لوجب طلاق زوجته لو أمره به، ولم يقولوا به. فإن قلت: لو ناداه وهو في الصلاة؟ اختلفوا في وجوب إجابته، والأصح وجوبها في نفل إن تأذى التأذي المذكور، وقضية هذا أنه حيث وجد ذلك التأذي ولو من طلبه للعلم أو زهده أو غير ذلك من القرب لزمه إجابته. قلت: هذه القضية مقيدة بما ذكرته إن شرط ذلك التأذي أن لا يصدر عن مجرد الحمق ونحوه -كما تقرر-، ولقد شاهدت من بعض الآباء مع أبنائهم أمورا في غاية الحمق التي أوجبت لكل من سمعها أن يعذر الولد ويخطئ الوالد، فلا يستبعد ذلك. وبهذا يعلم أنه لا يلزم الولد امتثال أمر والده بالتزام مذهبه؛ لأن ذاك حيث لا غرض فيه صحيح مجرد حمق، ومع ذلك كله فليحترز الولد من مخالفة والده، فلا يقدم عليها اغترارا بظواهر ما ذكرنا، بل عليه التحري التام في ذلك ... فتأمل ذلك فإنه مهم. اهـ.
هذا؛ وينبغي للابن الحرص على إرضاء الوالد، والإحسان إليه؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الوالد أوسط أبواب الجنة؛ فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه. رواه الترمذي, وصححه الألباني.
وقال عليه الصلاة والسلام: رغم أنف رجل بلغ والداه عنده الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. رواه الترمذي، وصححه الألباني.
والله أعلم.