ضوابط الكفر بعد الإسلام، وحكم المكرَه على الكفر

0 226

السؤال

فضيلة الشيخ, يقول الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره, وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. انتهى". أريد شرحا مفصلا لهذه الجملة.
السؤال: هل هذه النواقض بمجرد ما يقع فيها المسلم يكفر حتى وإن كان لا يعلم أنها نواقض؟ أي: هل يحكم عليه بالكفر مباشرة، ونأمره بتجديد إسلامه، ونبين له أنه قد وقع في ناقض؟ أم نقيم عليه الحجة، ثم إذا أصر بعد ذلك نقول: الآن وقع في الكفر؟
وأخيرا: هل نقول: إن هناك أنواعا من الكفر لا ينظر فيها إلى انطباق الشروط، وانتفاء الموانع، ولا إقامة حجة، خصوصا إذا كان الشخص يعيش بين المسلمين؟
وشكرا جزيلا، ووفقكم الله لكل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فإن مراد الشيخ -رحمه الله تعالى- أنه لا يختلف في الحكم حال من وقع في نواقض الإسلام على سبيل الجد أو الهزل، إلا إذا كان مكرها؛ فإن المكره لا يكفر إن لم ينشرح صدره للكفر؛ فقد أخرج البيهقي والحاكم عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه. فلما أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له -عليه الصلاة والسلام-: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان. قال: فإن عادوا فعد.

وقد ذكر غير واحد من أهل التفسير أن عمارا هو الذي أنزل الله تعالى في شأنه هذه الآية، وهي قوله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم {النحل:106}.

وقال صاحب شرح الإقناع: باب حكم المرتد. "وهو الذي يكفر بعد إسلامه نطقا واعتقادا أو شكا أو فعلا ... ويأتي طوعا لا كرها"؛ لقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالأيمان} [النحل: 106]. ولو كان هازلا؛ لعموم قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} [البقرة: 217]، وحديث ابن عباس مرفوعا: "من بدل دينه فاقتلوه". رواه البخاري. اهـ.

وقد قرر أهل العلم أنه لا يحكم على مسلم معين بالكفر لمجرد عمل وقع فيه حتى تقام عليه الحجة التي يكفر مخالفها، وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، وأن الحكم على الفعل بأنه كفر لا يلزم منه كفر فاعله، وأقوال العلماء في بيان هذه الضوابط كثيرة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها". انتهى من مجموع الفتاوى.

ولا بد في التكفير من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، إلا إذا كان ما وقع فيه الشخص من النواقض من المسائل الجلية التي لا تخفى على مثله، ولا يتصور جهله بها؛ فقد جاء في كتاب (الإيمان؛ حقيقته، خوارمه، نواقضه، عند أهل السنة والجماعة (ص: 265)): التكفير عند أهل السنة والجماعة له موانع يمنع من تنزيل الحكم على الشخص بعينه؛ إلا بعد توفر الشروط، وانتفاء الموانع التي تمنع تكفير المعين، ومن هذه الموانع وأهمها:

- الجهل: إن من شروط الإيمان -عند أهل السنة والجماعة- وجود العلم والمعرفة عند الشخص المؤمن به؛ لذا فمن أنكر أمرا من أمور الشرع جاهلا به، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله؛ فإنه لا يكفر، حتى لو وقع في مظهر من مظاهر الشرك أو الكفر؛ لأنه لم يكن يعلم بهذا المكفر قبل إسلامه، أو يعيش في بلد فاش فيه الجهل، أو بعيد عن ديار العلم وأهله، أو نشأ في بلد انقلبت فيه موازين الشرع؛ فصار الشرك فيه هو التوحيد، والبدعة فيه هي السنة، وكثر فيه الانحراف، وزين فيه الباطل والكفر، ولبس عليهم، أو أنه وقع في المكفر وهو غير قاصد له، أو أن هذا المكفر من المسائل الخفية التي لا يطلع عليها إلا العلماء. فمثل هذا الشخص لا يستحق العقوبة حتى تقام عليه الحجة؛ لأن الجهل ببعض الأمور العقدية قد وقع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع بعض الصحابة -رضي الله عنهم-، ومع ذلك لم يكفرهم صلى الله عليه وسلم.

وأهل السنة والجماعة يراعون اختلاف أحوال الناس، وأماكنهم، وزمانهم؛ من حيث انتشار العلم، أو عدم انتشاره، لأنهم لا يشتركون جميعا في معرفة الأمور الضرورية على درجة واحدة؛ بل قد يعرف البعض ما لا يعرفه الآخرون، أو قد يكون بعض المسائل من المسلمات عند البعض مع أن غيرهم يجهلها.

ومع هذا فلا يعني أن الجهل عندهم عذر مقبول لكل من ادعاه؛ فالجهل عندهم درجات مختلفة، فجهل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، غير جهل ما دونه.

والجاهل العاجز عن السؤال والعلم؛ غير الجاهل المتمكن المفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله تعالى. وكون الرجل يعذر بالجهل -عندهم- لا يعني ذلك إبقاء منزلته كما هي؛ بل تنحط منزلته، وينقص إيمانه بقدر بعده عن الحق. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة