ليست البيئة والنشأة العوامل الوحيدة في إصابة الحق بل عدل الله وحكمته

0 156

السؤال

يخطر على بالي في بعض الأحيان شبهات حول عدل الله عز وجل، تزعجني، مثل: كيف سيحاسب الله من ولد في بيئة غير ملتزمة وذلك الذي ولد لأبوين ملتزمين؟ ففرصتهما للدخول في الإسلام متفاوتة، وكذلك من ولد في بلاد الغرب لأبوين غير مسلمين، فصورة الإسلام التي وصلتهم ليست كما نعرفها نحن، فربما لم تصلهم معاني الإسلام وقواعده، إنما وصلهم ما ينقل عنه بأنه دين الإرهاب، وغير ذلك، فهل نجزم بكيفية حساب الله لهم، أم نقول إن أمرهم إلى الله؟ وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فبداية: ننبه على أن من شأن المؤمن أن يدفع الشبهات الجزئية عن نفسه، بكليات عقيدته الثابتة، التي لا تقبل الشك، وهذا من جملة رد المتشابه إلى المحكم، وتلك هي سمة الراسخين في العلم، كما قال تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب. [آل عمران: 7].

قال ابن كثير: يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات، هن أم الكتاب، أي بينات، واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس، انعكس. اهـ.

واتصاف الله تعالى بالعدل، والحكمة، والرأفة، والرحمة: من المحكمات التي لا يمكن أن يرتاب فيها مؤمن، فإن أشكل عليه شيء في هذا الباب، رده إلى هذا الأصل المحكم، ولا يجعل للشبهة سبيلا إلى قلبه، قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): قال لي شيخ الإسلام -رضي الله عنه- وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد-: لا تجعل قلبك للإيرادات، والشبهات، مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها، ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه، صار مقرا للشبهات -أو كما قال- فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات، كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة؛ لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق، على جسم الباطل. اهـ.

وأما بخصوص إشكال السائل فنقول: إن الهداية في الحقيقة نعمة، ومنة من الله تعالى، يضعها بحكمته في ما يليق بها من المواضع، وهو سبحانه أعلم بعباده، وما تكنه صدورهم، فيهدي من يشاء؛ رحمة منه، وفضلا، ويضل من يشاء حكمة منه، وعدلا؛ ولذلك ترى ممن تربى في بيت صالح، من يرتد عن دينه -والعياذ بالله- بل إن هناك من أبناء الأنبياء من كفر، وأصر على كفره، رغم اجتهاد أبيه في دعوته للحق، ومعاينته للآيات، وإشرافه على الهلاك، كما هو الحال في ابن نبي الله نوح -عليه السلام-، وكذلك زوجته! ومن أنبياء الله تعالى، وأوليائه، من نشأ في بيت كافر وثني، أو عاش في كنف فاجر شقي، كما هو الحال في نبي الله، وخليله إبراهيم -عليه السلام-، وحال امرأة فرعون عليها الرضوان!

وكذلك نرى في عصرنا من يلحد من أبناء جلدتنا، وأهل قبلتنا، كما نرى من كفرة أهل الشرق، والغرب من يؤمن، ويحسن إسلامه، رغم بيئته الفاسدة، ومرتعه الأثيم، فليست البيئة، ولا النشأة، ولا الأسرة، هي العامل الوحيد في إصابة الحق، والاستقامة عليه، وإنما مرد ذلك إلى عدل الله، وحكمته، وفضله، ورحمته، قال تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [القصص: 68 - 70].

ثم إن الحجة التي لا يعذب الله أحدا إلا بعد قيامها، لا تقوم على غير المسلم، إلا إذا بلغته دعوة الإسلام بطريقة يتمكن من فهمها، لا يحول بينه وبينها حائل، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، ولا يمكن الجزم بقيامها على آحاد الناس بأعيانهم، قال ابن القيم في (طريق الهجرتين): الله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه، وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه، وعمرو بعينه، قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله، وبين عباده، فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام، فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل، وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا، فهي جارية مع ظاهر الأمر ...

وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة. وهو مبني على أربعة أصول:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى، لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ...

الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها، وبموجبها.

الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل، مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.

الأصل الثالث: أن قيام الحجة، يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة، وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله، وتمييزه، كالصغير، والمجنون، وإما لعدم فهمه، كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له...

الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى، تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة، وعواقبها الحميدة. اهـ.

وراجع في ذلك الفتوى رقم: 158921.

وأما من مات على غير الإسلام، ولم تكن بلغته الدعوة على وجهها، فإن مآله في الآخرة موضع نظر، واختلاف بين أهل العلم، راجع فيه الفتويين: 298303، 39870.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة