السؤال
هل هناك تعارض بين موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من زيارة اليهودي الذي آذاه وتغيب عنه، وكذلك قصة جنازة اليهودي الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أليست نفسا، وكذلك قصة بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم على موت يهودي لأن نفسا قد أفلتت منه إلى النار، وكذلك إباحة الشارع الزواج من الكتابية الذي يستأمنها على أولاده وأمواله، وبين تحريم بدء أهل الكتاب بالسلام وكذلك تحريم مودتهم؟!
أفيدونا بإجابة شافية وبالتفصيل في هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمودة الكفار المنهي عنها هي مودتهم لدينهم، وأما إن كانت المحبة طبعية، كالمحبة للقرابة أو لنكاح أو لمعاملة حسنة ونحو ذلك، مع وجود البغض لأجل الدين، فتلك محبة غير محرمة، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 296488، 166883، 161841، وإذا فهمت هذا زال عنك إشكال إباحة الزواج بالكتابيات، مع أن الزواج لا تلزم منه المحبة أصلا فقد يكون لمقاصد أخرى، وليس كل البيوت تبنى على الحب؛ كما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ، وانظر للأهمية الفتوى رقم: 166485، فهذا أقوى ما قد يشكل على النهي عن مودة الكافرين مما أوردته.
وأما سائر ما أوردته كقيام النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة اليهودي وقوله: أليست نفسا، فإنما قام صلوات الله عليه تعظيما لمن يقبض الأرواح، قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ: قوله: (أليست نفسا) هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث قال: إن للموت فزعا وكذا ما أخرجه الحاكم عن أنس مرفوعا إنما قمنا للملائكة ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى. ولأحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا إنما يقومون إعظاما للذي يقبض النفوس ولفظ ابن حبان: إعظاما لله تعالى الذي يقبض الأرواح فإن ذلك لا ينافي التعليل السابق؛ لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله تعالى، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة. انتهى .
وأما بكاء النبي صلى الله عليه وسلم على اليهودي الذي أفلت إلى النار، فلم نجد حديثا بهذا اللفظ، وإنما الثابت في الصحيحين من حديث أنس زيارته صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي، ودعوته إلى الإسلام وأمر أبي الغلام له بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقوله: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار". وهذا لا إشكال فيه بحال، فإن زيارة الكفار لأجل دعوتهم إلى الإسلام أمر حسن مشروع، ولم نطلع كذلك على موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي آذاه وتغيب عنه، ولا ندري مرادك منه.
وعلى أية حال فالأمر في زيارة أهل الكتاب هو ما قدمنا لك: أنه جائز إذا تضمن مصلحة شرعية كدعوتهم إلى الإسلام، أو كف شرهم عن المسلمين ونحو ذلك، جاء في الروض مع حاشيته: ولا ـ أي ولا تجوز ـ تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم، وهو مذهب الجمهور، وعنه: يجوز إن رجي إسلامه، لأنه صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا، وعرض عليه الإسلام فأسلم، رواه البخاري، وجوز الشيخ عيادتهم وتهنئتهم وتعزيتهم ودخولهم المسجد، للمصلحة الراجحة، كرجاء الإسلام، وقال العلماء: يعاد الذمي، ويعرض عليه الإسلام. انتهى.
وأما ابتداؤهم بالسلام فممنوع في قول الجمهور؛ للنهي الصحيح الوارد في ذلك، وجوز بعض أهل العلم كشيخ الإسلام بداءتهم بغير السلام ككيف أصبحت ونحوه، قال في حاشية الروض: ولا يجوز أن يقال لهم: كيف أنت وكيف حالك؟ قال أحمد: هذا عندي أكبر من السلام، وجوز الشيخ أن يقال: أهلا وسهلا، وكيف أصبحت وكيف حالك؟ ويجوز بأكرمك الله، وهداك الله، يعني للإسلام. انتهى.
وعلى ذلك، ففي ألفاظ التحية والترحيب غير السلام غنى وكفاية لمن أراد أن يعود مريضهم أو يزورهم ويتلطف معهم لمصلحة شرعية، ولا يتعارض هذا مع عدم بدئهم بالسلام، فضلا عن النهي عن مودتهم لدينهم.
وأخيرا ننبه على أن بدأهم بالسلام ـ ولا سيما في الأحوال الخاصة ـ محل خلاف معتبر بين أهل العلم، كما ننبه على ضرورة التفريق بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح في معاملة الكفار، كما بيناه من قبل في الفتوى رقم: 242599، ولمزيد الفائدة يمكنك الرجوع إلى تفسير القرطبي عند قوله تعالى: قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا {مريم:47} .
والله أعلم.