السؤال
إذا احتار المسلم في أمر أيقدم عليه أم يحجم، فهل إذا قال مع نفسه أنوي في نفسي أن أفعل الأرضى لله والأصلح والأحب إليه، وهو لا يعلمه على وجه التأكيد، لأن هذا الأمر اجتمعت فيه مفسدة ومصلحة وسأل الناس، فاختلفوا فيه، فهل بهذه النية فقط سوف يشرح الله له صدره إلى ما ينوي؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مما لا ريب فيه أن صدق النية مع الله، وخلوص السريرة في طلب مرضاته سبحانه سبب لإصابة الحق، والتوفيق لما يحبه تعالى، يقول ابن القيم شارحا هذا المعنى: والمعول في ذلك كله ـ يعني إصابة الحق ـ على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيته ورغبته في ذلك لم يعدم أجرا إن فاته أجران، والله المستعان، وسئل الإمام أحمد، فقيل له: ربما اشتد علينا الأمر من جهتك، فمن نسأل بعدك؟ فقال: سلوا عبد الوهاب الوراق، فإنه أهل أن يوفق للصواب، واقتدى الإمام أحمد بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تجلى لهم أمور صادقة، وذلك لقرب قلوبهم من الله، وكلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء، وكان نور كشفه للحق أتم وأقوى، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات، وضعف نور كشفه للصواب، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، يفرق به العبد بين الخطأ والصواب، وقال مالك للشافعي ـ رضي الله عنهما ـ في أول ما لقيه: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية، وقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا {الأنفال: 29} ومن الفرقان النور الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان قلبه أقرب إلى الله كان فرقانه أتم. اهـ.
لكن كون صدق النية سببا لإصابة الحق ليس معناه أن يعول المسلم على ما ينشرح له صدره فقط، بل الواجب هو اتباع الأدلة الشرعية الظاهرة وسلوك سبل الترجيح بينها عند التعارض، فإذا عدمت سبل الترجيح الظاهرة فحينئذ يكون ما يميل له قلب المؤمن المعمور بتقوى الله وإخلاص النية له مرجحا يعمل به عند تعارض الأدلة واشتباه الوقائع، قال ابن تيمية: فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر لا يقول به أحد من أئمة العلم والزهد، فأئمة الفقهاء والصوفية لا يقولون هذا، لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته، فهو ترجيح شرعي، وعلى هذا التقدير فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه الله وبغض ما يكرهه الله إذا لم يدر في الأمر المعين هل هو محبوب لله أو مكروه؟ ورأى قلبه يحبه أو يكرهه، كان هذا ترجيحا عنده، كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه، فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي، ففي الجملة متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام طريقا على الإطلاق أخطئوا كما أخطأ الذين جعلوه طريقا شرعيا على الإطلاق، ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحا وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه، وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله تعالى: إن في ذلك لآيات للمتوسمين ـ وقال عمر بن الخطاب: اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور صادقة، وقد ثبت في الصحيح قول الله تعالى: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ـ وأيضا فالله سبحانه وتعالى فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف وبغض المنكر، فإذا لم تستحل الفطرة، فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان منورة بنور القرآن وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله، والإلهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والاعتقاد، وتارة يكون من جنس العمل والحب والإرادة والطلب، فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب، وقد يميل قلبه إلى أحد الأمرين دون الآخر، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ـ والمحدث الملهم المخاطب، وفي مثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وابصة: البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك، وإن أفتاك الناس وأفتوك ـ وهو في السنن، وفي صحيح مسلم عن النواس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ـ وقال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب ـ وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية، لكن إن مثل هذا يكون ترجيحا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة، فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعا، فإن التسوية بينهما باطلة قطعا.اهـ باختصار.
والله أعلم.