السؤال
السادة العلماء، لي مسألة أود أن توضحوا لي فيها الحكم الشرعي -أسأل الله عز وجل أن يرحمكم، ويوفقكم لما فيه الخير-.
اشتريت شقة بـ: 1800000 دينار سنة 1998، وقدمت للبائع المبلغ كاملا، ومكنني من استغلال الشقة، غير أننا أخرنا توثيق العقد، ولما جاء وقت توثيق العقد طلب مني تأخيره إلى حين تصحيح خطأ وقع في الاسم، فارتابني شك، وخشيت الخيانة، فطلبت منه أن أوثق معه اعترافا بالدين، ومشينا إلى الموثق، وحررنا وثيقة اعترف فيها البائع بأنني أقرضته مبلغا قدره مليون دينار فقط، رغم أنني أعطيته 1800000 دينار، وهو ثمن الشقة، وبعد ثلاث سنوات صحح الاسم، غير أن البائع أخلف وعده، وطلب مني إخلاء الشقة، فأردت الضغط عليه، وذلك بمطالبته إرجاع الدين - مليون دينار- حتى يراجع نفسه، ويوثق عقد البيع، ولم أكن أنوي إبطال عقد البيع الذي تم بيننا، فرد لي المبلغ -مليون دينار- فقلت له: أنا اشتريت الشقة بـ : 1800000 دينار، فقال لي خذ المليون وانس 800000.
فقمت بمقاضاته مدة 10 سنوات، وحكم القضاء الآن لصالحي، وألزمه بإتمام إجراءات البيع، وفي مدة التقاضي خسرت أكثر من 2500000 دينار، وهذا بسبب خيانته، وإخلافه للوعد، والقضاء لم يلزمني بأي شيء، لكن من الناحية الشرعية: هل أرد له المليون دينار، أم أرد له قيمة المليون دينار، (فقيمة المليون دينار اليوم هو: 3500000 دينار).
وإذا كان الشرع يلزمني أن أرد له قيمة المليون دينار (وهو اليوم 3500000 دينار)، فهل لي أن أعطيه المليون دينار فقط، والباقي وهو 2500000 دينار أعتبره من باب الظفر بالحق، فأنا خسرت بسببه أكثر من 2500000 دينار، ولا يمكن لي أن أستردها بالطرق الودية، ولا القضائية.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالأصل أن مصاريف المحاكمة، وما يتعلق بها من تكلفة الشكاية، وجلب الخصم، ونحو ذلك تكون على بيت المال.
وإذا تعذر استيفاء ذلك من بيت المال، فإن تلك المصاريف تكون على طالب الحق -أي الذي رفع الشكاية- إلا أن يلد الخصم، ويتبين ظلمه مع الأمن من جور القاضي، وظلمه؛ فإنها حينئذ تكون على المطلوب.
وإن اختل شيء من ذلك فالأجرة على طالب الحق، لا على المطلوب منه، قال ابن عاصم الأندلسي المالكي في تحفة الحكام:
وأجرة العون على طالب حـق ومن سواه إن ألد تستحـق.
وفي التحفة في شرح البهجة: قول الناظم: إن ألد ظاهر في أنه ثبت لدده ومطله، وقد فصل ابن الشماع في ذلك، فقال: إن كان الحق جليا، والمطلوب به مليا، والحاكم المدعو إليه من حكام العدل، فالصواب إغرامه حيث لا عذر له في التخلف، وإن كان له عذر ظاهر في التخلف من غرم، أو يخاف أن يسجن، ولا يعرف عدمه، أو كان طالبه مؤاخذا له بشهادة زور مثلا، أو كان الحاكم مثلا من حكام الجور، ونحو ذلك، فلا غرم عليه، وإن لم تعرف حقيقة الأمر في ذلك، فالأصل عصمة مال المسلم، فلا يباح بالاحتمال، والشك؛ إذ لا يرتفع اليقين إلا باليقين. اهـ.
وانظر الفتوى رقم: 74340، والفتوى رقم: 306760.
وعلى هذا؛ فإن الأصل أن البائع إذا امتنع من إعطائك حقك، واضطررت لمقاضاته، وظهر لدده في الحق دون وجود عذر مقبول لذلك، فإن تكاليف ما أنفقته في المحاكمة لاسترداد حقك تكون عليه؛ بشرط أن يكون ذلك على الوجه المعتاد، قال ابن تيمية: وإذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء، ومطل صاحب الحق حتى أخرجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل، إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. اهـ
وقال البهوتي في كشاف القناع: (ولو مطل) المدين رب الحق (حتى شكا عليه فما غرمه) رب الحق (فعلى) المدين (المماطل) إذا كان غرمه على الوجه المعتاد، ذكره في الاختيارات؛ لأنه تسبب في غرمه بغير حق، (وفي الرعاية: لو أحضر مدعى به، ولم يثبت للمدعي لزمه) أي المدعي (مؤنة إحضاره و) مؤنة (رده) إلى موضعه؛ لأنه ألجأه إلى ذلك بغير حق. اهـ.
ومن ثم؛ فيجوز لك في هذه الحالة أن تأخذ المليون الذي بحوزتك ظفرا، وتطالب بباقي التكاليف التي صرفتها على الوجه المعتاد؛ لأن خصمك كان السبب فيها بظلمه الواضح، ولدده في الحق الذي عليه.
ولو قدر أن مصاريف التقاضي المعتادة لا تبلغ المليون، ففي هذه الحالة يلزمك رد الزائد عن حقك من المليون، وترده كما هو، دون النظر إلى تغير قيمته، جاء في المجموع للنووي: يجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثل. اهـ.
وجاء في بدائع الصنائع: ولو لم تكسد ـ النقود ـ ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددا، ولا يلتفت إلى القيمة ها هنا. اهـ.
والله أعلم.