السؤال
يا إخواني أعزكم الله في الدارين.
يقول قائل: إن قاعدة المشقة تجلب التيسير وما تفرع عنها من قواعد، كقولهم: المحرم تحريم وسائل يباح عند الحاجة، والمحرم تحريم مقاصد يباح عند الضرورة، ينافي كمال اليقين بالله، فمثلا لو أن المحتاج إلى بيع العرايا، أو المحتاج إلى لبس الحرير تيقن بالله لترك هذا المحرم، فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، فأجبته بأن اليقين بالله هو يقين بجميع صفاته جل وعلا، فالترخص بحق في العرية أو في لبس الحرير هو من باب اليقين برحمة الله، كذلك مثلا في أمر تتعارض فيه مفسدة ومصلحة، والمصلحة راجحة، ارتكابنا لتلك المفسدة للوصول إلى تلك المصلحة هو من باب يقيننا بحكمة الله مثلا، مع يقيننا بأن الله لو شاء بقدرته لأوصلنا إلى تلك المصلحة من دون الوقوع في المفسدة، فهل ما أجبت به صحيح؟.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم أحدا من أهل العلم قال بما نقله السائل عن هذا القائل! وهذا يكفي لرده والإعراض عنه من حيث المبدأ، فإنه لا يسوغ الالتفات في أحكام الشريعة إلى شيء لم يقل به إمام أو عالم معتبر من علماء الشريعة! كما لا يحل لأحد أن يتكلم في دين الله تعالى بغير علم، قال ابن القيم في (مدارج السالكين): أما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريما، وأعظمها إثما، ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير، الذي يباح في حال دون حال، فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال، ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت، قال الله تعالى في المحرم لذاته {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال {والإثم والبغي بغير الحق} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما، فإنه يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثما، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم. اهـ.
هذا من حيث المبدأ، وأما التفصيل، فإن هذا الكلام المذكور باطل محض وخطأ صرف، ولا يقوله طالب علم فضلا عن عالم بالشرع، وقاعدة: (المشقة تجلب التيسير) من القواعد الفقهية الكلية الخمسة المتفق عليها بين الفقهاء، وراجع فيها الفتوى رقم: 27000، وراجع فيها وفي قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة ارتكاب أخف الضررين، الفتوى رقم: 132571.
ونزيد هنا التنبيه على أن هذه القواعد الفقهية والأصول الشرعية إنما هي من رحمة الله تعالى وفضله على عباده، ومن مظاهر إكمال هذا الدين وإتمام نعمة الله علينا، ولذلك قرنها الله تعالى بسياق الامتنان علينا في قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم {المائدة:3}، قال الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير): الأحسن عندي أن يكون موقع فمن اضطر في مخمصة متصلا بقوله: {ورضيت لكم الإسلام دينا} اتصال المعطوف بالمعطوف عليه، والفاء للتفريع: تفريع منة جزئية على منة كلية، وذلك أن الله امتن في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرات: مرة بوصفه في قوله {دينكم}، ومرة بالعموم الشامل له في قوله: {نعمتي}، ومرة باسمه في قوله: {الإسلام} فقد تقرر بينهم: أن الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق، من آيات كثيرة قبل هذه الآية، فلما علمهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرم عليهم من المطعومات، وأعقب ذلك بالمنة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله: {فمن اضطر} الخ، فناسب أن تعطف هاته التوسعة وتفرع على قوله: {ورضيت لكم الإسلام دينا} وتعقب المنة العامة بالمنة الخاصة. اهـ.
وكذلك قرن الله تعالى بين أصل هذه القاعدة وبين التنبيه على شأن المعتدين الذين يضلون بأهوائهم بغير علم، فقال سبحانه: وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين {الأنعام:119}، قال السعدي: الحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند الضرورة والمخمصة... ثم حذر من كثير من الناس، فقال: {وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم} أي: بمجرد ما تهوى أنفسهم {بغير علم} ولا حجة، فليحذر العبد من أمثال هؤلاء، وعلامتهم ـ كما وصفهم الله لعباده ـ أن دعوتهم غير مبنية على برهان، ولا لهم حجة شرعية، وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم الفاسدة، وآرائهم القاصرة، فهؤلاء معتدون على شرع الله وعلى عباد الله، والله لا يحب المعتدين، بخلاف الهادين المهتدين، فإنهم يدعون إلى الحق والهدى، ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية والنقلية، ولا يتبعون في دعوتهم إلا رضا ربهم والقرب منه. اهـ.
ومن هذا الاعتداء على شرع الله تعالى وعلى عباده: دعوى التعارض بين قاعدة المشقة تجلب التيسير، وبين كمال اليقين بالله!!! وهذا سيد الموقنين صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الرخص الشرعية في محالها، ومن جملة ذلك: إباحة بيع العرايا استثناء من أصل المزابنة، وإباحة لبس الحرير لمن به حكة ونحوها، وراجع في ذلك الفتويين التالية أرقامهما: 108988، 71486.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن محبة الله تعالى للأخذ برخصه وتخفيفه على عباده، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وفي رواية: "كما يحب أن تؤتى عزائمه". قال ابن القيم في (مدارج السالكين): الله عز وجل يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، وفي المسند مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته فجعل الأخذ بالرخص قبالة إتيان المعاصي، وجعل حظ هذا: المحبة، وحظ هذا: الكراهية، وما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم أمران إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، والرخصة أيسر من العزيمة، وهكذا كان حاله في فطره وسفره، وجمعه بين الصلاتين، والاقتصار من الرباعية على ركعتين، وغير ذلك. فنقول: الرخصة نوعان:
ـ أحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصا، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، عند الضرورة، وإن قيل لها: عزيمة؛ باعتبار الأمر والوجوب، فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة، وكفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعدا، وفطر الحامل والمرضع خوفا على ولديهما، ونكاح الأمة خوفا من العنت، ونحو ذلك، فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته، ولا يرد إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة، فإن منها ما هو واجب، كأكل الميتة عند الضرورة، ومنها ما هو راجح المصلحة، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره، ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره، ففيه مصلحتان قاصرة ومتعدية، كفطر الحامل والمرضع، ففعل هذه الرخص أرجح وأفضل من تركها.
ـ النوع الثاني: رخص التأويلات واختلاف المذاهب. فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص. اهـ.
وقال الصنعاني في (سبل السلام): عند أهل الأصول أن الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر، والعزيمة مقابلها، والمراد بها هنا ما سهله لعباده ووسعه عند الشدة من ترك بعض الواجبات، وإباحة بعض المحرمات، والحديث دليل على أن فعل الرخصة أفضل من فعل العزيمة، كذا قيل، وليس فيه على ذلك دليل، بل يدل على مساواتها للعزيمة، والحديث يوافق قوله تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. اهـ.
وكذلك غيره من أدلة القرآن على مبدأ التيسير والتخفيف ورفع الحرج عن عباده، كما تجدها في الفتوى المحال عليها آنفا برقم: 132571.
ويضاف إلى ذلك ما أشار إليه السائل في جواب هذا القائل، من تلمح أسماء الله تعالى وصفاته من الرحمة والحكمة وغيرهما عند العمل بالرخص الشرعية في موطنها، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 306226.
والله أعلم.