استحقاق الوعيد بعد بلوغ الحجة والإعراض عنها

0 136

السؤال

معلوم أن الله لا يحث أي عبد من عباده على فعل المعصية والعمل السيئ، ومع ذلك يأتي القرآن ليخبر أبا لهب وبعض المنافقين في سورة التوبة: فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ـ وإبليس أنهم من أهل النار، وإخبار الله لهم أنهم من أهل النار يجعلهم يقنطون وييأسون من رحمة الله ويكرهونه عز وجل ويكرهون نبيه صلى الله عليه وسلم، أليس بذلك يحثهم الله على فعل المعاصي التي ذكرتها من قنوط وكره لله ورسوله رغم أن الله لا يحث إلا على الخير وينهى عن الفحشاء؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد رأينا في أسئلتك السابقة إثارة للإشكالات في مسألة القدر، وقضية أبي لهب بخصوصها، كما في أسئلتك التي أجبناك عنها في الفتوى التالية أرقامها: 314839، 272617، 319213.

ونضيف في هذه الفتوى: أن إخبار الله جل وعلا عن بعض خلقه أنهم من أهل النار بأعيناهم ـ كإبليس وأبي لهب وغيرهم ـ فهو لم يكن ابتداء قبل أن تقوم عليهم الحجة، كلا، بل لما بلغتهم حجة الله وأعرضوا عنها واستكبروا، عاقبهم الله على ذلك، بأن حرمهم الإيمان وأخبر أنهم من أهل النار، قال ابن تيمية: فإن الله أمر أبا لهب بالإيمان قبل أن تنزل السورة ـ يعني سورة المسد ـ فلما أصر وعاند استحق الوعيد، كما استحق قوم نوح حين قيل له: إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ـ وحين استحق الوعيد أخبر الله بالوعيد الذي يلحقه ولم يكن حينئذ مأمورا أمرا يطلب به منه ذلك. اهـ.

وأما كون: إخبار الله لهم أنهم من أهل النار يجعلهم يقنطون وييأسون من رحمة الله ويكرهونه عز وجل ويكرهون نبيه كما عبرت: فهو ليس بمشكل أبدا، فذلك كله من جملة عقاب الله لهم، ونكاله بهم، كما بيناه لك في أجوبتنا السابقة.

وأما ما ذكرته بقولك: معلوم أن الله لا يحث أي عبد من عباده على فعل المعصية والعمل السيئ... إن الله لا يحث إلا على الخير ـ فنقول: الحث لفظ مجمل، إن أردت به أن الله جل وعلا لا يحب ذلك ولا يرضاه، ولا يأمر به أمرا شرعيا، فهذا صحيح، وأما إن أردت أن الله لا يخلق ذلك، ولا يقدره كونا، فهذا غير صحيح، وهذا يجرنا لبيان أصل عظيم من أصول أبواب القدر والتي أدى عدم فقهها إلى زلل طوائف كثيرة في أبواب القدر، وهذا الأصل هو: وجوب التمييز بين ما هو شرعي ديني من الإرادة والأمر والحكم والقضاء وغيرها، وبين ما هو كوني قدري منها، وفي بيان هذا ننقل كلاما نفيسا لابن تيمية، يقول فيه: لكن ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين:

أحدهما: الإرادة الكونية، وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ـ وقوله: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ـ وقال تعالى: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ـ وقال تعالى: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ـ وأمثال ذلك.

وأما النوع الثاني: فهو الإرادة الدينية الشرعية، وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى كما قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ـ وقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ـ وقوله: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ـ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ـ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ـ فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة.

ولهذا كانت الأقسام أربعة:

أحدها: ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون، فوقع، ولولا ذلك لما كان.

والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها لو وقعت، ولو لم تقع.

والثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها: كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت، ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي. اهـ باختصار يسير من مجموع الفتاوى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة