السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، فقد أستوقفني أمر أرجو من حضرتكم التفضل في توضيحه لي إن شاء الله. فقد ذهب معظم علماء السنة إلى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه كالشافعي والإمام أحمد ويوسف القاضي وأكثر الشافعية كما قال السبكي في الإبهام، بل وقال البعض أنه يخطئ في اجتهاده هذا كما قال أبو إسحاق في اللمع في أصول الفقه. أما السؤال فهو من شقين: الأول: توضيح ما هية هذا الاجتهاد. الثاني: وهل على هذا القول لا يمكن الاحتجاج إلا بالقرآن وتكون السنة شأنها شأن فتاوى بقية المجتهدين معرضة للخطأ والصواب، وأين قوله تعالى: لا ينطق عن الهوى، وقول الرسول: عليكم بسنتي... جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن الله جل وعلا افترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما افترض طاعته سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا) [المائدة: 92]. وجعل المولى تبارك وتعالى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام طاعته فقال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) . [ النساء :80 ]. وتكون طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته التي هي وحي من الله تعالى، قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) [النجم :3-5]. روى الإمام أحمد وأبو داود أن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش، فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضى، فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فوا الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق".وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه" . وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أقول إلا الحق". قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: "إني لا أقول إلا حقا". فإذا تقرر هذا فلنعد لخلاصة السؤال وهي: هل النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد كما يجتهد غيره من الأمة؟ وهل يجري على اجتهاده ما يجري على اجتهاد غيره؟ وللجواب على السؤال نقول: أجمعوا على أنه يجوز له أن يجتهد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها حكى هذا الإجماع سليم الرازي وابن حزم مثل عزمه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم على ترك تلقيح ثمار المدينة وكذلك مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة ومنزل الجيش يوم بدر ونحو ذلك . وأما اجتهاده في الأحكام الشرعية والأمور الدينية فقد اختلفوا في ذلك إلى ثلاثة أقوال: الأول: ليس له ذلك لقدرته على النص بنزول الوحي . والثاني : الوقف عن القطع بشيء في هذا وقد زعم الصيرفي في شرح الرسالة أنه مذهب الشافعي لأن الشافعي حكى الأقوال ولم يختر منها شيئا ، فدل ذلك على أنه متوقف وهو اختيار الباقلاني وأبي حامد الغزالي . الثالث : أنه يجوز له أن يجتهد في الأحكام الشرعية والأمور الدينية وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم ، واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه كما خاطب عباده وضرب له الأمثال وأمره بالتدبر والاعتبار وهو أجل المتفكرين في آيات الله وأعظم المعتبرين بها . وإذا جاز لغيره من الأمة ممن هو أهل لذلك أن يجتهد - بالإجماع - مع كونه معرضا للخطأ فلأن يجوز لمن هو مؤيد بالوحي و معصوم عن الخطأ أولى . وإذا اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في حكم فإن كان صوابا أقر عليه ، وإن كان خطأ لم يقر عليه ونزل الوحي مبينا ذلك ، والأمثلة على ذلك كثيرة منها اجتهاده صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر وأخذه الفداء منهم ، فنزل قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ..) [الأنفال: 67]. ونحو اجتهاده صلى الله عليه وسلم في إذنه للمنافقين في التخلف عن عزوة تبوك ، فنزل قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) . [ التوبة : 43] . فعاتبه على ما وقع منه، ولو لم يكن عن اجتهاده وكان ذلك بالوحي لم يعاتبه . فالحاصل أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها ، فإذا أقر على اجتهاده فالواجب اتباعه ولا يجوز العدول عنه بحال وعلى هذا فكل ما ثبت مما ورد عنه صلى الله عليه وسلم فهو حق لا مرية فيه وهو منزل من عند الله ، ومن فرق بينه وبين القرآن في الحجية واتخذ ذلك منهجا فقد خرج من ملة الإسلام ، والله أعلم .