السؤال
كيف تكون توبة من تحدث في داعية أو شيخ أو عالم، وندم، أشعر بالندم كثيرا وأعلم جدا عظم هذا الموضوع حتى عندما تكلمت به، وكان الموضوع عندما كنت أجلس مع صديقاتي ومعلماتي ندرس العلم ونراجع القرآن في فسحة المدرسة، طلبت من صديقاتي ألا يسمعن إلا للمشايخ المعروفين الثقات ونهيتهم عن غيرهم، فسألنني من هم أؤلئك الذين لا تريديننا أن نسمع منهم! لكنني كنت لا أذكر أسماءهم إلى أن زلق لساني وقلت أسماءهم وقلت لا تسمعوا لهم، وأحسب أنهم قد ساهموا في ثورة مصر وهكذا.. حتى تأثرت القلوب بكلامي ذلك أنني ذات مكانة عالية في الثقافة في نظر معلماتي وصديقاتي وأنا محل ثقة لديهن، وقد ندمت أشد الندم.. فذهبت ساعية لتكفير خطئي ولحقت بكل فتاة أعرف أنها حضرت المجلس الذي تحدثت فيه عن العلماء ورحت أخبرها أن كلامي غير صحيح وأنني مخطئة وأنني لم أتثبت من المعلومة وإن كنت في نفسي لم تختلف نظرتي لأولئك المشايخ لكن لهم حرمة أعظم، وأخشى أنني لم أستطع تذكر كل من حضر المجلس وخاصة أن المصلى تدخل فيه الفتيات ليصلين الضحى ويخرجن وقد يسمعن وقد ينشرن، وبعد ذلك قررت ألا أتكلم أبدا في عالم أو داعية، لكنني رأيت بعد ذلك إحدى معلماتي تنشر في صفحتها الخاصة مقطعا لداعية معروف بالتصوف، فأعطيتها مقطعا مسجلا للشيخ الفوزان فيما تحدث به عن هذا الداعية وأنه لا يسكت عنه، فلم تنتصح وقالت هذا الداعية والشيخ الفوزان عندي سيان ولا يحق لي أن أتحدث عن عالم وحسابهم على الله، وأما الداعية الذي نهيتني عنه فقد استفدت منه أكثر، فكتبت لها رسالة مؤثرة وختمتها بنقده وأنه يدعو القبور ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسب إليه أحاديث موضوعة، وأنه من الأصاغر، فهل لي توبة عند الله وهو الذي يغفر؟ وكيف أبرأ من حسابي أمام هؤلاء إن كنت مخطئة فيهم أو لم يكن لي حق في التحدث عنهم يوم الحساب؟ وإذا رأيت دعاة ينشرون الباطل، فهل لي حق في السكوت؟ وهل يجوز السكوت عليهم؟ وما الفرق بين الدعاة الذين ننكر عليهم والذين ننكرهم تماما؟ كما وقعت طولا وعرضا أيضا في الإخوان المسلمين...
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يغفر ذنبك، وأن يلهمك رشدك، وأن يقيك من شر نفسك، وشكر الله لك حرصك على السؤال وتحريك عن الحق، وأما ما سألت عنه: فجوابه في النقاط التالية:
النقطة الأولى: الغيبة من كبائر الذنوب، ويشتد فحشها إذا كانت في حق أهل العلم والفضل الذين يقتدى بهم، وقد حصر أهل العلم مواطن جواز الغيبة في ستة مواطن، ومنها ما يتعلق بالتحذير من أهل البدع بالقدر الذي تحصل به النصيحة لعموم المسلمين دون زيادة، قال النووي في رياض الصالحين: اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب ... منها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة، فليتفطن لذلك. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين... ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته، فلابد من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله، والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة: كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة. اهـ.
وقال القرافي في الفروق في الفرق بين قاعدة الغيبة المحرمة وقاعدة الغيبة التي لا تحرم: قال بعض العلماء: استثني من الغيبة ست صور... الرابعة: أرباب البدع والتصانيف المضلة ينبغي أن يشهر الناس فسادها وعيبها وأنهم على غير الصواب، ليحذرها الناس الضعفاء فلا يقعوا فيها، وينفر عن تلك المفاسد ما أمكن، بشرط أن لا يتعدى فيها الصدق ولا يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه، بل يقتصر على ما فيهم من المنفرات خاصة... وهذا القسم داخل في النصيحة... اهـ.
ولا يخفى أن للبدع رتبا متفاوتة، فبعضها أشد من بعض، وينبغي أن تعامل كل بدعة بما يناسبها ويليق بأهلها، قال الشاطبي في الاعتصام: إن القيام عليهم ـ يعني أهل البدع ـ بالتثريب، أو التنكيل، أو الطرد، أو الإبعاد، أو الإنكار، هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها: عظيمة المفسدة في الدين، أو لا، وكون صاحبها مشتهرا بها أو لا، وداعيا إليها أو لا، ومستظهرا بالأتباع أو لا، وخارجا عن الناس أو لا، وكونه عاملا بها على جهة الجهل أو لا، وكل هذه الأقسام له حكم اجتهادي يخصه، إذ لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، كما جاء في كثير من المعاصي، كالسرقة، والحرابة، والقتل، والقذف، والجراح، والخمر، وغير ذلك لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل، وحكموا باجتهاد الرأي، تفريعا على ما تقدم لهم في بعضها من النص، كما جاء في الخوارج من الأثر بقتلهم، وما جاء عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في صبيغ العراقي، فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء أنواع: فذكر خمسة عشرا وجها لمعاملتهم:
أحدها: الإرشاد، والتعليم، وإقامة الحجة، كمسألة ابن عباس حين ذهب إلى الخوارج، فكلمهم، حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف، ومسألة عمر بن عبد العزيز مع غيلان، وشبه ذلك.
والثاني: الهجران، وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة، وما جاء عن عمر ـ رضي الله عنه ـ من قصة صبيغ.
... والخامس: ذكرهم بما هم عليه، وإشاعة بدعتهم كي يحذروا، ولئلا يغتر بكلامهم، كما جاء عن كثير من السلف في ذلك.... اهـ.
النقطة الثانية: هناك أصول وقواعد تضبط التعامل مع من وقع في شيء من البدع، ينبغي مراعاتها وتنزيلها على الواقع وقد جمع الدكتور أحمد الحليبي طائفة من هذه الأصول من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، طبعتها وزارة الأوقاف القطرية ضمن سلسلة كتاب الأمة تحت عنوان: أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية ـ ومن هذه الأصول:
الأصل الأول: الاعتذار لأهل الصلاح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد، وحمل كلامهم المحتمل على أحسن محمل.
الأصل الثاني: عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية.. وأولى من ذلك عدم تكفيره أو تفسيقه.
الأصل الثالث: عذر المبتدع المجتهد لا يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة، ولا إباحة اتباعه، بل يجب الإنكار عليه فيما يسوغ إنكاره مع مراعاة الأدب في ذلك.
الأصل الرابع: عدم الحكم على من وقع في بدعة أنه من أهل الأهواء والبدع ولا معاداته بسببها، إلا إذا كانت البدعة مشتهرة مغلظة عند أهل العلم.
وغير ذلك من الأصول، فراجعيها للفائدة، كما يمكن الرجوع لكتاب: دراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، ومما جاء فيه ص: 129ـ 13 ـ التحذير من ثلاثة أمور:
الأول: احذر زلة العالم ولا تغمطه قدره...
الثاني: اتق هفوة العابد ولا تعاديه...
الثالث: تنبه لغفلة الرجل الصالح ولا تلمزه... .
وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 135131.
النقطة الثالثة: إذا صدر من المسلم غيبة محرمة لأحد من أهل العلم أو الدعاة إلى الله، فإن ذلك وإن كان ذنبا، لكن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد سبق لنا بيان كيفية التوبة من ذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالية أرقامها: 215656، 66515، 171183.
وأخيرا ننبه على أن التحذير من أهل البدع ينبغي أن يقتصر على من كان مؤهلا لذلك: علما وفهما وإنصافا، ومن شك في كون المحذر منه ممن تجوز غيبته والتحذير منه، فليمسك عن ذلك، وليدع هذا الشأن لأهله، فإن السلامة لا يعدلها شيء، والأصل في المسلم البراءة.
والله أعلم.