السؤال
لفت انتباهي ردكم على سؤالي رقم: 2605077، عندما قلتم: فقد دلت النصوص الشرعية على أن الله عز وجل يعطي أهل الجنة كل ما يتمنون، ووردت أمثلة على ذلك مع بعض المستثنيات التي قدر الله أنها لا تكون مثل: الرجوع للدنيا، لكنني لم أقل لكم الرجوع إلى الدنيا فكلامي كان واضحا وصريحا، وقد تعجبت من ردكم في هذا الباب: قلت لكم في السؤال وأقول لكم الآن كوكب على هيئة الأرض لا يعني ذلك كما فهمتم ـ والله قادر على كل شيء يقول للشيء كن فيكون، وهناك مشكلة شرعية وقعتم فيها مرارا، فقولكم كما في جوابكم على سؤالي وسؤال كثير من إخواني قولكم: وما لم يرد بشأنه دليل من الكتاب أو السنة ـ كالمثال الذي ورد في السؤال ـ فلا يمكن الجزم فيه بشيء، لأن الجنة من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بالوحي، فلا يجوز الجزم بأنه سيحدث فيها كذا أو كذا إلا بدليل، فأقول لكم أليست كل مسألة تقاس على القاعدة العامة؟ وهل الشرع سمى كل حرام باسمه وأنه حرام، وفي كل عام هناك أشياء حرام يتم تصنيعها، وهناك أشياء حلال يتم تصنيعها فهل نستطيع أن نقول ما ورد دليل سماها بعينها أنها حلال أو حرام، وكذلك أمور الجنة إذا سأل المسلم سؤالا كأن يتمنى الجهاد في الجنه أو الصيد أو يتمنى أن يخلق له ملك الملوك سبحانه وتعالى كوكبا على هيئة الأرض، أو يتمنى نكاح فتاة على هيئة فتاة كافرة في الدنيا وهي موجودة في الحقيقة في النار وغيرها من الأمور، فإنها تقاس على القاعدة العامة وينظر فيها هل هذا التمني يخالف الفطرة السوية؟ وهل هو خبيث محرم أو طيب حلال؟ وهل ورد دليل على منعها في الدنيا والجنة كما هو حال من يتمنى اللواط أو السحاق أو نكاح المحارم؟ لماذا لم تقولوا لمن سألكم لم يرد دليل صريح على تحريم السحاق أو نكاح الفتاة في دبرها، لكنكم فعلتم الصواب فنظرتم للقاعدة العامة وهي أن أهل الجنة طيبون لا يتمنون إلا طيبا كما دلت الآيات، أليست هذه كتلك؟ ولماذا لم تفعلوا نفس الشيء عندما يتم سؤالكم عن شيء حلال طيب يحبه الله! والقاعدة العامة في الحلال هي كما دلت النصوص الشرعية على أن الله عز وجل يعطي أهل الجنة كل ما يتمنون، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: يا رسول الله إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ فقال: إن يدخلك الجنة إن شاء، فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء تطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت ـ فقال أعرابي: يا رسول الله إني أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة إن شاء الله، ففيها ما اشتهت نفسك، ولذت عيناك ـ لاحظوا ماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإبل وكأن الأعرابي بدأ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم كل شيء في نفسه، فأعطاه القاعدة العامة: يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة إن شاء الله، ففيها ما اشتهت نفسك، ولذت عيناك ـ وهل ما كتبه لكم يدخل تحت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو سبحانه على كل شيء قدير لا يستثنى من هذا العموم شيء، لكن مسمى الشيء ما تصور وجوده، فأما الممتنع لذاته فليس شيئا باتفاق العقلاء ـ مجموع الفتاوى، وهذا المقطع من كلام الشيخ مقتطف من فتوى لكم برقم: 5755، كانت تتخدث عن تمني أهل الجنة وأقسام التمني.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فغفر الله للسائل فقد كان يكفيه العبارة التي نقلها من جواب سؤاله السابق، والتي تنص على أن ما لم يرد بشأنه دليل من الكتاب أو السنة: لا يمكن الجزم فيه بشيء، فإن هذا واضح في أن النفي والإثبات كلاهما لا يصح الجزم به حتى يقوم دليل عليه، وفي هذا رد على من يجزم بإثبات أو بنفي، ولولا الإمكان العقلي ودخول ذلك في عموم قدرة الله تعالى، لما صلح إلا النفي، والمقصود أن جوابنا على السائل كان بنفي الجزم لا الإمكان! وفي هذا القدر كفاية، فإن أبى السائل إلا أن نسايره في منطق تفكيره، قلنا: إن الفرق بين الجهاد وبين الصيد أو الزواج مما ذكره السائل من أماني أهل الجنة قائم ظاهر، لأن وجود الجهاد وملحقاته -التي ذكرها السائل في سؤاله السابق- من وجود جيش لا يرى آخره، وقتال اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار، وحصول الغنائم والسبي، وتحرير القدس.. هذا كله لا يتصور وجوده حقيقة إلا في دار تكليف يصح فيها وصف الإيمان والكفر، ويقوم فيها داعي الجهاد والقتل، وتؤخذ فيها الغنائم، ويحكم فيها لقتلى المؤمنين بالجنة، وقتلى الكافرين بالنار، وما إلى ذلك مما لا يكون إلا في دار تكليف، بخلاف وجود الصيد والزواج وأنواع النعيم والشهوات التي لا تستلزم ذلك، ولأن الجنة دار جزاء، لا دار عمل وتكليف، فإن ما يستلزم وجود التكليف فيها ممتنع، ولذلك قضى الله تعالى ألا يرجع إلى الدنيا من يموت فيدخلها، كما في حديث جابر بن عبد الله بن حرام قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا جابر؛ ما لي أراك منكسرا؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي قتل يوم أحد، وترك عيالا ودينا، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحا، فقال: يا عبدي تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وحسنه الألباني.
وأما تمني الواحد من أهل الجنة أن يخلق له ملك الملوك سبحانه وتعالى كوكبا على هيئة الأرض، على حد ما جاء في السؤال، فنقول في جوابه: هذا الكوكب لا يخرج في التصور الذهني عن أن يكون: إما داخل الجنة، وإما خارجها، فإن كان داخل الجنة فيرد عليه ما سبق أن ذكرناه من انتفاء التكليف هناك، وإن كان خارجها فيرد عليه ما سبق أيضا، إضافة إلى تعارض ذلك مع رغبتهم في البقاء الدائم في الجنة، وعدم رضاهم بالتحول عنها، كما قال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا {الكهف107ـ 108}.
قال ابن كثير: في قوله: لا يبغون عنها حولا ـ تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائما أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنا ولا رحلة ولا بدلا. اهـ.
ولذلك إذا دخل أهل الجنة الجنة ورأوا ما فيها، سموها دار المقامة، كما قال تعالى على لسانهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب {فاطر:34ـ35}.
قال القشيري: دار المقامة ـ أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجا. اهـ.
وقال السعدي: أي: الدار التي تدوم فيها الإقامة، والدار التي يرغب في المقام فيها، لكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها وزوال كدوراتها. اهـ.
وعلى أية حال، فإنا نرجع للسائل فنقول: حسبنا في وصف نعيم أهل الجنة أن لهم فيها ما يشاءون، وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، كما قال تعالى: لهم فيها ما يشاءون {النحل: 31}.
وقال سبحانه: ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم {فصلت: 31}.
وقال عز وجل: وفيها ما تشتهيه الأنفس {الزخرف: 71}.
وقال تبارك وتعالى: وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون {الأنبياء: 102}.
والله أعلم.