السؤال
يقول الله عز وجل: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين.
كيف يمكنني أن أميز بين وسوسة الشيطان، التي تأتي كعقاب من الله عز وجل، لمن يعش عن ذكر الله، ويعرض عنه؛ وبين وسوسة الشيطان التي تأتي من الشيطان نفسه، من دون أن يسلطه الله عز وجل، فلا يصح مثلا أن نقول إن سيدنا أيوب أعرض عن ذكر الله، وأن الله قد سلط عليه الشيطان حين قال لربه: أني مسني الشيطان بنصب وعذاب؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإضرار الشيطان ببني آدم لا يقتصر على الدين، بل يشمل ضرر الدين، وضرر الدنيا معا، وأكبر ضرره هو تسلطه على العبد بالإضلال، والصد عن سبيل الله تعالى، والمد في الغي حتى الممات، بما يستوجب النار. وهذا قد أعاذ الله منه عباده الصالحين، كما قال تعالى: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون. [النحل: 99، 100].
قال ابن كثير: قوله: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه.
وقال آخرون: معناه لا حجة له عليهم. وقال آخرون: كقوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 83]. {إنما سلطانه على الذين يتولونه}.
قال مجاهد: يطيعونه. وقال آخرون: اتخذوه وليا من دون الله. {والذين هم به مشركون} أي: أشركوا في عبادة الله تعالى. ويحتمل أن تكون الباء سببية، أي: صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى. وقال آخرون: معناه: أنه شركهم في الأموال، والأولاد. اهـ.
ومن هذا القبيل: تقييض الشيطان لمن أعرض عن كتاب الله تعالى، يضله ويصده عن الحق حتى يحق عليهما العذاب جميعا -والعياذ بالله- كما قال تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [الزخرف: 36 - 39].
قال السعدي: يخبر تعالى عن عقوبته البليغة، لمن أعرض عن ذكره، فقال: {ومن يعش} أي: يعرض، ويصد {عن ذكر الرحمن} الذي هو القرآن العظيم ... قيض له الرحمن شيطانا مريدا، يقارنه ويصاحبه، ويعده ويمنيه، ويؤزه إلى المعاصي أزا ... فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر الله في الدنيا مع قرينه، وهو الضلال والغي، وانقلاب الحقائق. وأما حاله، إذا جاء ربه في الآخرة، فهو شر الأحوال، وهو: إظهار الندم والتحسر، والحزن الذي لا يجبر مصابه، والتبري من قرينه، ولهذا قال تعالى: {حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} كما في قوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}. اهـ.
ودون هذا النوع من تسلط الشيطان على الإنسان، نوع آخر لا يعدو ضرره حدود الحياة الدنيا، كتأثير الأمراض، وأنواع البلاء التي تصيب العبد في بدنه أو أهله أو ماله. وهذا يصاب به المؤمنون وغيرهم، بل حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا له حكم الأمراض التي تجوز على الأنبياء عليهم السلام.
قال القاضي عياض في(الشفا): إنما السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته ... فيما يجوز طروؤه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. اهـ. وراجع لمزيد الفائدة عن ذلك الفتوى رقم: 168813.
ومن هذا الجنس ما ابتلى الله تعالى به نبيه وعبده أيوب عليه السلام، فليس فيه منقصة لدينه، وإنما هو تسلط على البدن، شأنه شأن الأمراض وأنواع البلاء التي ينال الأنبياء منها نصيب وافر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على قدر دينه. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
والخلاصة أن تسلط الشيطان بالضرر على دين العبد، غير تسلطه على بدنه، فالأول يعصم المرء منه على قدر إيمانه، وعمله الصالح، وأما الثاني فقد يبتلى به الأنبياء فمن دونهم. وقد نص أهل العلم على الفرق بين النوعين في شرح الحديث المتفق عليه: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتني. فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان، ولم يسلط عليه.
قال ابن دقيق العيد في (إحكام الأحكام): يحتمل أن يؤخذ عاما، يدخل تحته الضرر الديني، ويحتمل أن يؤخذ خاصا بالنسبة إلى الضرر البدني؛ بمعنى أن الشيطان لا يتخبطه، ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه، وهذا أقرب، وإن كان التخصيص على خلاف الأصل؛ لأنا إذا حملناه على العموم اقتضى ذلك: أن يكون الولد معصوما عن المعاصي كلها، وقد لا يتفق ذلك، أو يعز وجوده، ولا بد من وقوع ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم. أما إذا حملناه على أمر الضرر في العقل أو البدن: فلا يمتنع ذلك، ولا يدل دليل على وجود خلافه. والله أعلم. اهـ.
وقال القاضي عياض في (إكمال المعلم): لم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر، والوسوسة، والإغواء. اهـ.
وسبب ذلك أن الوسوسة التي هي مجرد خواطر الشر الرديئة، لا يخلو منها إنسان - حاشا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي أعانه الله على قرينه من الجن فأسلم، فلا يأمره إلا بخير- فالفرق بين الناس ليس في حصول هذه الوسوسة ووجودها، وإنما في قبولها والتأثر بها، أو كرهها وردها. فالكل يجدها: المؤمن، وغيره، لكن المؤمن يكرهها ويدفعها، فيزداد إيمانا، وأما غيره فيتأثر بها بحسب عصيانه، أو ضعف إيمانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة: يا رسول الله؛ إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به! فقال: "ذاك صريح الإيمان" وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به! قال: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان؛ كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه؛ فهذا أعظم الجهاد، والصريح: الخالص كاللبن الصريح. وإنما صار صريحا لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها، فخلص الإيمان فصار صريحا. ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا؛ ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب، فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا، وإما أن يصير منافقا. اهـ.
ثم إننا ننبه السائل على أن قوله: (وسوسة الشيطان التي تأتي من الشيطان نفسه من دون أن يسلطه الله عز وجل) يوهم أن هذا النوع من الوسوسة يكون من غير مشيئة الله تعالى، وقضائه وقدره، وهو خطأ ظاهر، فليس من شيء يحدث إلا وهو بتقدير الله عز وجل. وتصحيح العبارة أن يقال: (وسوسة الشيطان التي لا تكون عقوبة من الله تعالى).
والله أعلم.