السؤال
ما حكم من ينكر الأحاديث الواردة في كتب التفسير إذا لم ترد في كتب الحديث الستة؟ وما حكم من يأخذ بالصحيحين فقط، ولا يأخذ بباقي الأحاديث لعدم وجود الإجماع على صحتها، مع الدليل؟
ما حكم من ينكر الأحاديث الواردة في كتب التفسير إذا لم ترد في كتب الحديث الستة؟ وما حكم من يأخذ بالصحيحين فقط، ولا يأخذ بباقي الأحاديث لعدم وجود الإجماع على صحتها، مع الدليل؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالعبرة بصحة الإسناد، وحكم أئمة الحديث أو بعضهم بالقبول، ولا يقتصر ذلك على الصحيحين، ولا على بقية الكتب الستة، سواء في كتب التفسير أم غيرها، ويكفي في تقرير ذلك أن البخاري ومسلما لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما، بل قد نصوا على أن هناك من الصحيح ما لم يخرجاه، قال الحافظ العراقي في ألفيته:
أول من صنف في الصحيح ... محمد وخص بالترجيح
ومسلم بعد، وبعض الغرب مع ... أبي علي فضلوا ذا لو نفع
ولم يعماه ولكن قلما ... عند ابن الاخرم منه قد فاتهما.
قال العراقي في شرحه: أي: لم يعم البخاري ومسلم كل الصحيح، يريد: لم يستوعباه في كتابيهما، ولم يلتزما ذلك... قال البخاري: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول، وقال مسلم: ليس كل صحيح وضعته هنا، إنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه، يريد: ما وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم، قاله ابن الصلاح. اهـ.
ثم قال العراقي في بيان الصحيح الزائد على الصحيحين:
وخذ زيادة الصحيح إذ تنص ... صحته أو من مصنف يخص
بجمعه نحو ابن حبان الزكي ... وابن خزيمة وكالمستدرك
على تساهل وقال: ما انفرد ... به فذاك حسن ما لم يرد
بعلة، والحق أن يحكم بما ... يليق، والبستي يداني الحاكما
قال في الشرح: لما تقدم أن البخاري ومسلما لم يستوعبا إخراج الصحيح، فكأنه قيل: فمن أين يعرف الصحيح الزائد على ما فيهما؟ فقال: خذه إذ تنص صحته أي: حيث ينص على صحته إمام معتمد، كأبي داود، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، والخطابي، والبيهقي في مصنفاتهم المعتمدة، كذا قيده ابن الصلاح بمصنفاتهم، ولم أقيده بها، بل إذا صح الطريق إليهم أنهم صححوه، ولو في غير مصنفاتهم، أو صححه من لم يشتهر له تصنيف من الأئمة، كيحيى بن سعيد القطان، وابن معين، ونحوهما، فالحكم كذلك على الصواب... ويؤخذ الصحيح أيضا من المصنفات المختصة بجمع الصحيح فقط، كصحيح أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان البستي، المسمى بالتقاسيم والأنواع، وكتاب المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم، وكذلك ما يوجد في المستخرجات على الصحيحين من زيادة، أو تتمة لمحذوف، فهو محكوم بصحته، كما سيأتي في بابه. اهـ.
وقد تعرض ابن الوزير في كتابه: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم ـ لتفنيد دعوى السيد جمال الدين بن أبي القاسم حصر الصحيح فيما أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وكذلك أصحاب الصحاح، وأن ما لم يذكروه فهو غير صحيح عند المحدثين، فقال: ذكر السيد عن المحدثين ما لم يذهبوا إليه من القول بضعف ما ليس في الصحاح، وفي الحقيقة أنه لا يلزم جواب كلام السيد هذا؛ لأنه اعتراض بما لم يكن، واحتجاج على غير خصم، ولكن لا بد من ذكر إشكالات يسيرة على ما ذكره:
الإشكال الأول: أن المحدثين قد نصوا على عكس ما ذكره السيد، وظهر ذلك عنهم ظهورا لا يكاد يخفى على من له أدنى معرفة بعلم الحديث، ومن المشهور المستفيض عن البخاري أنه قال: إنه اختار حديثه من مائة ألف حديث صحيح، مع أن صحيحه لا يشتمل إلا على قدر ستة آلاف حديث، فمن نص على أنه أخرج ستة آلاف حديث من مائة ألف حديث صحيح كيف يذهب إلى أن ما ليس في كتابه، فليس بصحيح، أو يقال: إنه تعرض لحصر الصحيح!؟ وقد روى النووي في شرح مسلم عن الحافظ الكبير أبي زرعة الرازي أنه ذكر صحيح مسلم، وأنكر عليه، وقال: يطرق لأهل البدع علينا، فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح، قال سعيد بن عمرو ـ يعني الحافظ البرذعي ـ فلما رجعت إلى نيسابور، ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة، فقال: إنما قلت: صحيح، قال سعيد: وقدم مسلم بعد ذلك الري، فبلغني أنه خرج إلى الحافظ أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوا مما قال لي أبو زرعة من تطريقه للمبتدعة علينا أن يقولوا ما تقدم، فأجاب، فقال: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: هو صحيح، ولم أقل إن ما لم أخرجه في هذا الكتاب فهو ضعيف، فقبل عذره وحدثه، قلت: فانظر إلى هذين الحافظين الكبيرين: أبي زرعة، وابن وارة كيف اشتد نكيرهما على مسلم لما توهما أنه ادعى حصر الحديث الصحيح، حتى صرح بالبراءة من ذلك، حتى إن ابن وارة جفاه وامتنع من تحديثه، حتى بين أمر ذلك، ثم حدثه بعد المعرفة ببراءته من ذلك، فكيف ينسب إلى هؤلاء القول بانحصار الصحيح في هذه الكتب، وقد ذكروا ذلك في علوم الحديث؟ ممن ذكره منهم: ابن الصلاح، وزين الدين العراقي في كتابه التبصرة، والحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث له، وفي المستدرك.. ونقل عنه أبو السعادات في مقدمة جامعه: أن الصحيح عشرة أقسام، حديث البخاري ومسلم قسم واحد منها، ونص على أنهما لم يجمعاه، وعده ابن الصلاح، وزين الدين سبعة أقسام، حديث البخاري ومسلم منها ثلاثة، وبعد، فالتطويل في هذا لا يليق، فأهل الخبرة يعلمون بالضرورة أن هذا ليس مذهبا لأهل الحديث، فلم يزل علماء الحديث يصنفون، ويصححون، ويستدركون على صاحبي الصحيح ما تركاه، وهو على شرطهما.... وقد استفاض بين علماء الحديث قديما وحديثا الاحتجاج بما صححه غير هؤلاء، كالحافظ البرقاني، وإمام الأئمة ابن خزيمة، والحافظ الكبير ابن حبان، والحاكم ابن البيع، والدارقطني، والبيهقي، وعبد الحق، وعبد الغني المقدسي، والشيخ تقي الدين، وابن سيد الناس، ومن لا يأتي عليه العد... وقال النووي: إن أبا داود لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام، ولا معظمه، وذلك ظاهر، بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطلاع، فانظر إلى النووي كيف ادعى العلم الضروري لمن له أدنى اطلاع، على أن السنن غير جامعة لأحاديث الأحكام الصحيحة، ولا لمعظمها أيضا. اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب هذا السؤال: عندنا إمام مسجد لا يستدل إلا بالأحاديث التي رواها الشيخان فقط، فهل هذا صحيح؟ فأجاب: الصحيح أن كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو حجة، سواء كان من الصحيحين أو من غيرهما، والصحيحان لم يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل هناك أحاديث صحيحة ليست في الصحيحين، ولا في أحدهما، وقد قبلها الناس وصححوها وعملوا بها، واعتقدوا بمقتضاها، فيقال لهذا الرجل: لماذا كنت تحتج بما رواه الشيخان البخاري ومسلم دون غيرهما؟ إذا قال: لأن كتابيهما أصح الكتب، قلنا: إذا المدار على الصحة، فأي كتاب كان فيه حديث صحيح، فإنه يجب عليك أن تقبله. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين رقم: 30943، ورقم: 273529.
والله أعلم.