0 342

السؤال

يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. إلى آخر الحديث.
ويقول في حديث آخر: "كتب الله مقادير الخلائق، قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة".
وفي حديث ثالث: "إن أول ما خلق القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، فمتى تكتب أقدار البشر؟ وهل كتبت أقدارنا قبل خلق الخلق بخمسين ألف سنة، أم في الأرحام؟ وكيف نجمع بين هذه الأحاديث، ونمحو هذا التناقض؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فليس هناك تناقض بين النصوص الشرعية الصحيحة -ولله الحمد-.

وما حسبته تناقضا، إنما هو أنواع من التقادير، كلها داخلة في إيماننا بأن الله كتب مقادير الخلق، وقد ذكر العلامة حافظ الحكمي في كتابه: أعلام السنة المنشورة، أن من مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الكتابة، وأن أنواعا من التقادير تدخل فيها، فقال -رحمه الله-:

يدخل في ذلك خمسة من التقادير، كلها ترجع إلى العلم:

التقدير الأول: كتابة ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما خلق الله القلم، وهو التقدير الأزلي.

الثاني: التقدير العمري، حين أخذ الميثاق يوم قال: {ألست بربكم} [الأعراف: 172].

الثالث: التقدير العمري أيضا، عند تخليق النطفة في الرحم.

الرابع: التقدير الحولي في ليلة القدر.

الخامس: التقدير اليومي، وهو تنفيذ كل ذلك إلى مواضعه. انتهى.

وقال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- في شرح العقيدة الواسطية: هناك أنواع من التقدير الكتابي، وأصله في أم الكتاب في اللوح المحفوظ، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الله قدر مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).

(قدر مقادير الخلائق) يعني كتبها. هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ، وهو الذي جاء في قوله: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. يعني الكتاب الأصل الذي لا يتغير، ولا يتبدل، وهو اللوح المحفوظ. هذه الكتابة العامة السابقة للخلق، وهناك كتابات تفصيلية. هذه الكتابات التفصيلية، تفصيل لما كتب في اللوح المحفوظ، فمنها ما ذكره شيخ الإسلام هنا:

- قال في الكتابة العامة (كتب في اللوح المحفوظ ما شاء) هذه الكتابة الأصل.

- ثم ذكر نوعا آخر من الكتابة قال: (وإذا خلق) جل وعلا (جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه؛ بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات)، وفي الحديث أيضا في الرواية: (فيؤمر بكتب أربع كلمات) (فيقال له: اكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد). وهذه ذكر شيخ الإسلام أنه قبل نفخ الروح؛ لقوله في الحديث: ( ثم يؤمر بنفخ الروح). هذه كتابة خاصة متعلقة بهذا الإنسان الذي ستنفخ فيه الروح، وهذا الكتب هو تفصيل لما في اللوح المحفوظ، هو مكتوب في اللوح المحفوظ، ويؤمرون بذلك، فيكون كتابة تفصيلية في حق هذا المعين.

- كذلك هناك التقدير السنوي الذي يكون في ليلة القدر، قال جل وعلا: إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما أدراك ما ليلة القدر(2) سميت ليلة القدر لأنها يقدر فيها ما يحصل في تلك السنة، (يقدر) بمعنى يكتب، أما التقدير الأصلي فهو في اللوح المحفوظ، وهي التي في قوله تعالى في أول سورة الدخان: حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) وهذا الفرق، يفرق كل أمر. يعني يفصل من اللوح المحفوظ، إلى الصحف التي بأيدي الملائكة، كما هو أحد وجهي التفسير، فهذه كتابة سنوية.

هاتان الكتابتان: العمرية، والسنوية هذه يكون فيها التعليق. يعني يقال فيها: (إن فعل العبد كذا، سيكون القدر كذا؛ وإن فعل العبد كذا، يكون القدر كذا) فإن وصل رحمه زيد في عمره، إن وصل رحمه وسع له في رزقه. فما يكون فيه المحو، والإثبات هو في هذه الصحف التي فيها التقدير السنوي، أو العمري الذي بأيدي الملائكة، وهذه تكون معلقة، كما قال ابن عباس في تفسير آية الرعد، وهي قوله جل وعلا: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.

 فهناك أشياء من القدر تقبل المحو والإثبات.  وهناك أشياء من الكتابة لا تقبل المحو والإثبات، بل هي آجال لا تقبل التغيير، أو أشياء لا تقبل التغير، وذلك ما في اللوح المحفوظ.

أما ما في صحف الملائكة، فإنه يقبل التغيير، وكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، يعني مكتوب التفصيل والنهاية، لكنه لا يقبل المحو والإثبات، أما ما في صحف الملائكة، فإنه يقبل المحو والإثبات، كما قال جل وعلا: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وهذا الوجه، هو الذي قاله ابن عباس -رضي الله عنه- وهو وجه ظاهر البيان والصحة؛ لأنه موافق للأدلة، كما قال جل وعلا: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب. وقال عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه) فكان وصل الرحم سببا في زيادة الرزق، وسببا في نسأ الأثر في زيادة العمر و(إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) هذا كله بما في صحف الملائكة، وما يكون فيها. انتهى.

وقد أفاض في شرح أنواع التقادير هذه الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: (شفاء العليل) فإذا أردت الزيادة؛ فراجعه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة