السؤال
درجات أهل الجنة بالترتيب: النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وروي في أحاديث أن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، وبما أن مرتبة الصديقين أعلى من الشهداء، فهل الصديقون يحظون بأن يكونوا في قناديل تحت عرش الرحمن؟ أم أنها خاصة بالشهداء.
وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق، قال: سألنا عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ عن هذه الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ـ قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل... الحديث.
وروى أحمد في مسنده عن كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه. وصححه الأرناؤوط.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الفضل هل هو مختص بالشهداء أم هو لهم ولغيرهم من المؤمنين؟ قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم ذاكرا هذا الخلاف: وذكر في حديث مالك: نسمة المؤمن، وقال: هنا الشهداء، فقيل: المراد: هناك الشهداء، إذ هذه صفتهم، لقوله تعالى: أحياء عند ربهم يرزقون ـ حسبما فسره في هذا الحديث، رخصة بهم، وأن غيرهم إنما يعرض عليه مقعده من الجنة أو النار بالغداة والعشي، كما جاء في حديث ابن عمر، وكما قال تعالى في آل فرعون: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ـ وقيل: بل المراد سائر المؤمنين المستوجبين لدخول الجنة دون عقاب، بدليل عموم الحديث وغير ذلك من الأحاديث، وقيل: بل أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم. انتهى.
وقد ناقش ابن القيم هذه المسألة وما قيل فيها من أقوال أخر في كتابه الروح، ورجح أن هذا الفضل يتناول الشهيد وغيره، ولا سيما الصديقين الذين هم أفضل من الشهداء، فقال رحمه الله: لا تنافي بين قوله: نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، وبين قوله: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ـ وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد، كما أن قوله: نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ـ يتناول الشهيد وغيره، ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، ترد روحه أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وأما المقعد الخاص به والبيت الذي أعد له، فإنه إنما يدخله يوم القيامة، ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعد الله لهم ليست هي تلك القناديل التي تأوي إليها أرواحهم في البرزخ قطعا، فهم يرون منازلهم ومقاعدهم من الجنة ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش، فإن الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة، ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك.... وأما قول من قال إن حديث كعب في الشهداء دون غيرهم فتخصيص ليس في اللفظ ما يدل عليه وهو حمل اللفظ العام على أقل مسمياته، فإن الشهداء بالنسبة إلى عموم المؤمنين قليل جدا، والنبي علق هذا الجزاء بوصف الإيمان، فهو المقتضي له، ولم يعلقه بوصف الشهادة، ألا ترى أن الحكم الذي اختص بالشهداء علق بوصف الشهادة؛ كقوله في حديث المقدام بن معد يكرب: للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ـ فلما كان هذا يختص بالشهيد قال: إن للشهيد ـ ولم يقل إن للمؤمن، وكذلك قوله في حديث قيس الجذامي: يعطى الشهيد ست خصال ـ وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي علق فيها الجزاء بالشهادة، وأما ما علق فيه الجزاء بالإيمان فإنه يتناول كل مؤمن، شهيدا كان أو غير شهيد، وأما النصوص والآثار التي ذكرت في رزق الشهداء وكون أرواحهم في الجنة فكلها حق، وهي لا تدل على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنة ولا سيما الصديقين الذين هم أفضل من الشهداء بلا نزاع بين الناس، فيقال لهؤلاء: ما تقولون في أرواح الصديقين هل هي في الجنة أم لا؟ فإن قالوا: إنها في الجنة، ولا يسوغ لهم غير هذا القول، فثبت أن هذه النصوص لا تدل على اختصاص أرواح الشهداء بذلك، وإن قالوا: ليست في الجنة، لزمهم من ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة كأبي بكر الصديق وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم ـ رضي الله عنهم ـ ليست في الجنة، وأرواح شهداء زماننا في الجنة، وهذا معلوم البطلان ضرورة. انتهى.
وما رجحه ابن القيم ـ رحمه الله ـ هو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى: وأرواح المؤمنين في الجنة كما في الحديث الذي رواه النسائي ومالك والشافعي وغيرهم: أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ـ وفي لفظ: ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ـ ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم، هذا وجاء في عدة آثار أن الأرواح تكون في أفنية القبور، قال مجاهد: الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه، فهذا يكون أحيانا، وقال مالك بن أنس: بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت. انتهى.
والله أعلم.