الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الحديث في شأن الشهيد: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه. أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب، وصححه، وقال ابن حجر: إسناده حسن.
وقد قال الملا علي القاري -رحمه الله-: في التقييد بالثنتين والسبعين إشارة إلى أن المراد به التحديد لا التكثير، ويحمل على أن هذا أقل ما يعطى، ولا مانع من التفضل بالزيادة عليها. انتهى.
وأما عن زوجتي المؤمن: فله زوجتان من الإنس، كما أن له غيرهما من الحور العين، فقد ثبت في زوجتي الحور العين ما في صحيح مسلم: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، قال: فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت. اهـ.
وثبت في شأن زوجتي الإنس حديث: أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان، كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن. رواه البخاري.
وأما عن الدليل على أنهما من نساء الدنيا، وأن له المزيد من الحور العين سبعون أو أكثر، فقد جاء في فتح الباري لابن حجر: قوله: ولكل واحد منهم زوجتان ـ أي: من نساء الدنيا - فقد روى أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا في صفة أدنى أهل الجنة منزلة: وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا ـ وفي سنده شهر بن حوشب، وفيه مقال، ولأبي يعلى في حديث الصور الطويل من وجه آخر عن أبي هريرة في حديث مرفوع: فيدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله، وزوجتين من ولد آدم ـ وأخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد رفعه: إن أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، وثنتان وسبعون زوجة ـ وقال: غريب، ومن حديث المقدام بن معد يكرب عنده: للشهيد ست خصال ـ الحديث، وفيه: ويتزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين...
وقال ابن القيم: ليس في الأحاديث الصحيحة زيادة على زوجتين سوى ما في حديث أبي موسى: إن في الجنة للمؤمن لخيمة من لؤلؤة له فيها أهلون يطوف عليهم ـ قلت: الحديث الأخير صححه الضياء، وفي حديث أبي سعيد عند مسلم في صفة أدنى أهل الجنة: ثم يدخل عليه زوجتاه ـ والذي يظهر أن المراد أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان، وقد أجاب بعضهم باحتمال أن تكون التثنية تنظيرا لقوله: جنتان، وعينان، ونحو ذلك، أو المراد تثنية التكثير والتعظيم، نحو: لبيك، وسعديك، ولا يخفى ما فيه... اهـ.
وقال المناوي: في رواية اثنتان لتأكيد التكثير، قال الطيبي: ثناه للتكثير نحو: ارجع البصر كرتين ـ لا للتحديد؛ لخبر: أدنى أهل الجنة الذي له ثنتان وسبعون زوجة.. فالعدد للتكثير لا للتحديد، كنظائره. اهـ.
وقال الملا علي قاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: والتوفيق بينه وبين خبر: أدنى أهل الجنة من له اثنتان وسبعون زوجة وثمانون ألف خادم ـ بأن يقال: يكون لكل منهم زوجتان موصوفتان بأن يرى مخ ساقها من ورائها، وهذا لا ينافي أن يحصل لكل منهم كثير من الحور العين الغير البالغة إلى هذه الغاية، كذا قيل، والأظهر أن لكل زوجتان من نساء الدنيا، وإن أدنى أهل الجنة من له اثنتان وسبعون زوجة في الجملة، يعني: اثنتين من نساء الدنيا، وسبعين من الحور العين. اهـ.
وفي طرح التثريب في شرح التقريب: قوله: ولكل واحد منهم زوجتان ـ هكذا هو في هذه الرواية في جميع الطرق بالتاء، وهي لغة متكررة في الأحاديث وكلام العرب، والأكثر حذفها، وبه جاء القرآن العزيز، وأكثر الأحاديث.
الثانية عشرة: استدل به أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال، ففي صحيح مسلم عن محمد بن سيرين قال: أما تفاخروا، أما تذاكروا الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة: لو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب ـ وفي رواية له: اختصم الرجال والنساء أيهم في الجنة أكثر، فسألوا أبا هريرة، فذكره، فإذا خلت الجنة عن العزاب، وكان لكل واحد زوجتان كان النساء مثلي الرجال، ويعارضه الحديث الآخر: إني رأيتكن أكثر أهل النار.
وفي الحديث الآخر: اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ـ وكلاهما في الصحيح، والجمع بينهما أنهن أكثر أهل الجنة، وأكثر أهل النار لكثرتهن، قال القاضي عياض: يخرج من مجموع هذا أن النساء أكثر ولد آدم، قال: وهذا كله في الآدميات، وإلا فقد جاء أن للواحد من أهل الجنة من الحور العدد الكثير، قلت: وقد تقدم من عند الزبيدي من حديث أبي سعيد: إن أدنى أهل الجنة الذي له اثنتان وسبعون زوجة ـ فإن قلت: كيف اقتصر في هذا الحديث على ذكر زوجتين؟ قلت: الزوجتان من نساء الدنيا، والزيادة على ذلك من الحور العين، وقال أبو العباس القرطبي: بهذا يعلم أن نوع النساء المشتمل على الحور، والآدميات في الجنة أكثر من نوع الرجال من بني آدم، ورجال بني آدم أكثر من نسائهم، وعن هذا قال عليه الصلاة والسلام: أقل ساكني الجنة النساء، وأكثر ساكني جهنم النساء ـ يعني: نساء بني آدم هن أقل في الجنة وأكثر في النار ـ قلت: وإذا قلنا بالأول: إن لكل واحد منهم زوجتين من نساء الدنيا ـ فيشكل على ذلك قوله: أقل ساكني الجنة النساء ـ ولعل راويه رواه بالمعنى في فهمه فأخطأ، فهم من كونهن أكثر ساكني جهنم أنهن أقل ساكني الجنة، وقد تقدم أن ذلك لا يلزم، وأنهن أكثر ساكني الجهتين معا؛ لكثرتهن، والله أعلم.
الثالثة عشرة: قد تبين ببقية الروايات أن الزوجتين أقل ما يكون لساكن الجنة من نساء الدنيا، وأن أقل ما يكون له من الحور العين سبعون زوجة، وأما أكثر ذلك: فلا حصر له، وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا ـ وفي رواية: في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون ـ وروى الترمذي من رواية ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه، وأزواجه، ونعيمه، وخدمه، وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية. اهـ.
والله أعلم.