الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنا نسأل الله لنا ولك ولأمك وللمسلمين العافية، والهداية، والموت على حسن الخاتمة، ونفيدك بأنك أخطأت خطأ كبيرا في تصورك عن الله تعالى، وتجب عليك التوبة من ذلك، وأن توقن بكمال عدل الله تعالى، وأنه يستجيب دعاء من دعاه بصدق ويقين وإخلاص، وعليك أن تحسن الظن بالله تعالى، وأن تستحضر حكمته، وعدله، ورحمته بخلقه، وعلمه بحالهم، وقدرته، فهو الفعال لما يريد، لا يجب عليه فعل شيء، وليس للخلق حق واجب عليه سبحانه وتعالى، بل هو سبحانه الفاعل المختار، والكبير المتعال، وله أن يختار لعباده ما شاء، ويعطيهم ما شاء، ويمنعهم مما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، كما قال أحدهم:
ما للعباد عليه حق واجب * كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا * فبفضله وهو الكريم الواسع.
ومع هذا، فأحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة، وعلم واسع، وتنزه عن البغي والظلم: وما ربك بظلام للعبيد {فصلت:46}، ولا يظلم ربك أحدا {الكهف:49}، إن ربك عليم حكيم {يوسف:6}، إن الله بالناس لرؤوف رحيم {البقرة:143}.
فواظب على الدعاء والتضرع إليه ساعات الإجابة، وادع بالاسم الأعظم، ولا تعجل، ولا تقنط، بل ثق بوعد الله بالاستجابة، فقد قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون {البقرة:186}، وقال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم {غافر:60}
وفي صحيح مسلم، وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجب لي، فيستحسر، ويدع الدعاء.
وفي المسند، والسنن عن بريدة قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
وبقدر حسن ظن العبد بالله يعامله الله، كما في الحديث القدسي: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله. رواه أحمد، وصححه الأرناؤوط، والألباني.
ثم إنا نلفت نظرك إلى أن تصرف الله في جعل هذا غنيا وهذا فقيرا، وهذا صحيحا وهذا مريضا، وهذا عقيما وهذا ولودا، لا يخلو من حكم، ولا يصدر إلا عن علم العليم القدير الحكيم الخبير، فقد قال الله تعالى: لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير {الشورى:49ـ50}.
فتأمل هذا التذييل الذي ختم به سبحانه الآية في قوله: إنه عليم قدير ـ أي: أن هبة الذكور، أو هبة الإناث، أو المنع من ذلك كل ذلك تابع لعلمه سبحانه وقدرته، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والمعنى: أن خلقه ما يشاء ليس خلقا مهملا عريا عن الحكمة؛ لأنه واسع العلم، لا يفوته شيء من المعلومات، فخلقه الأشياء يجري على وفق علمه وحكمته. اهـ.
فمن عرف أن ربه خالق السماوات والأرض، ومالكها، والمتصرف فيها، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وأن كل ذلك تابع لعلمه وحكمته، اطمأن قلبه بقضاء الله وقدره، وفوض أمره له، ورضي بما يختار له مولاه سبحانه، فقد قال الله تعالى: والله يعلم وأنتم لا تعلمون {البقرة:216}، وقال جل وعلا: لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير {النور:11}.
وعليك بالصبر، والإكثار من الاستغفار، والتوبة، فإن في ابتلاء المؤمن خيرا له إن هو صبر واحتسب، وقد وعد الله عز وجل باليسر بعد العسر.
وفتش في نفسك، فلعلك قارفت ذنبا حصل لك ما حصل بسببه، وتب منه توبة نصوحا، فما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وأد ما افترضه الله عليك من العبادات، وأعظمه الصلاة، فإنها ركن الدين الركين بعد الشهادتين، وعمود الإسلام، ولا حياة للقلوب من غير الصلاة، وإنها لتريح العبد من كل الهموم والمضايقات؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: أرحنا بها يا بلال. كما في صحيح سنن أبي داود.
وانظر عقوبة تارك الصلاة الدنيوية والأخروية في الفتوى رقم: 6061.
وانظر شروط التوبة النصوح في الفتوى رقم: 9694.
ولمعرفة بعض ثمرات الابتلاء وفوائده راجع الفتويين رقم: 16766، ورقم: 13270.
واعلم أن أعظم ضيق وبلاء في الدنيا سينساه العبد المؤمن مع أول غمسة له في الجنة، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا ـ من أهل الجنة ـ فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يارب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط.
والله أعلم.