السؤال
هل الغيب قطعا لا يعلمه إلا الله -تعالى- ورسله، بإذن من الله -جل في علاه- أم من الممكن أن يجري الله غيبيات على يد بعض الصالحين، كمثل الرؤى أو مثلا كقول إنسان صالح سترى بعد زمن سيفعل كذا وكذا وكذا، وسبحان الله يحدث ما تفوه به، وفي كل مرة نفس الشيء. فهل في مثل هذه الحالة يكون الله قد منحه كرامة أم كلها صدف وفتن وألاعيب شيطان، والغيب لا يجليه الله سوى لرسله؟
وهل المقصود من قول الله تعالى "إلا من ارتضى من رسول" يقصد بها الأنبياء والرسل أم حتى الصالحين كالخضر مثلا في سورة الكهف؟ ولا أقصد هنا أن يصعد إنسان ويقول أعلم ما سيحدث، وفي يوم كذا يحدث كذا، وهو على يقين أنه سيحدث، ولكن يتفوه بكلام فيحدث ذلك الكلام. أرجو التفصيل، وجزاكم الله ألف خير.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يعلم الغيب المطلق إلا الله تعالى، وعلى ذلك دلت نصوص الوحي، قال تعالى: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله {النمل:65}، وقال تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو {الأنعام:59}، وقال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب {الأنعام: 50}، وقال تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء {الأعراف:188}. وروى الإمام مسلم عن عائشة قالت: ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله.
وأما الغيب النسبي ـ وهو ما يعلمه بعض الناس دون بعض ـ فإنه لا مانع من إطلاع الله بعض الناس عليه عن طريق الإلهام أو الفراسة أو الرؤيا الصادقة، إلا أننا لا يمكن أن نجزم بأن شخصا ما أو جماعة ما سيطلعها الله عليه، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فهو عمر".
والمحدثون الملهمون الذين يجري الله تعالى على ألسنتهم بعضا من المغيبات، كأنما حدثوا بها، ولكنه لا بد أن يعرض ما ظنوا أنهم ألهموه على الشرع، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأولياء وإن كان فيهم محدثون كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنه قد كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ـ فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين في هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق، فالمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإنه ليس بمعصوم، كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام ـ ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافا عند كتاب الله، وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له، كما بين له يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر يشاور الصحابة فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه.. وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول فيقال له: أصبت، فيقول: والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه، فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر، فليس فيهم معصوم، بل الخطأ يجوز عليهم كلهم وإن كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ، وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا، فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع، ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وأما آية الجن فإنها قد حصرت الاستثناء في الرسل، فهم الذين يؤيدهم الله بالاطلاع على بعض الغيب، ويكون ذلك من معجزاتهم ودلائل نبوتهم، فقد جاء في تفسير البغوي: {فلا يظهر} لا يطلع {على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} إلا من يصطفيه لرسالته، فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة التي تخبر عن الغيب .. اهـ.
وفي تفسير القرطبي (19/ 27) : {فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات، وفي التنزيل: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم}. وقال ابن جبير: {إلا من ارتضى من رسول} هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه : ليكون ذلك دالا على نبوته. قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. اهـ
ولا تعارض بينه وبين الرؤيا والإلهام لأن مفاد الرؤيا والإلهام مظنون غير محقق، ولا يجزم به، ولا يعتبر علما بالغيب.
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير (29/ 248): يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى الناس، فيعلم من هذا الإيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو أن يفعلوه، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة، أو أمور الدنيا، وما يؤيد به الرسل عن الإخبار بأمور مغيبة؛ كقوله تعالى: غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين [الروم [2- 4] . والمراد بهذا الإطلاع المحقق المفيد علما كعلم المشاهدة. فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة، ففي الحديث: الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، أو بالإلهام . قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم رواه مسلم . قال مسلم: قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون. وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة: إنها تسر ولا تغر، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها اهـ. وقال الشيخ الألباني: لنعرف ما هو الفرق بين العلم بالغيب والفراسة التي يصيب بها أحيانا، وتتحدث بها بعض كتب السنة الصحيحة من جهة، ويغالي فيها الذين ينتمون إلى التصوف من جهة أخرى. أظنكم جميعا تعلمون قوله عليه الصلاة والسلام: (لقد كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي، فـ عمر) ومعنى (محدثون) أي: ملهمون، والإلهام ليس هو الوحي لكنه يلتقي مع الوحي أحيانا من حيث اكتشاف ما سيقع ظنا وليس يقينا، أي أن الذي ألهم بشيء لا يستطيع أن يقول: إن هذا سيكون حتما، إلا ما ندر جدا جدا، وهو يعترف بأنه ليس معصوما، أما الوحي فهو يقطع به كما هو حي تماما، يقطع بأن هذا الذي أوحاه الله إليه هو من وحي السماء، لا يدخله شك ولا لبس ولا ريب. فالآن: (لقد كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فـ عمر) ما معنى محدثون؟ أي: ملهمون، فما هو الإلهام؟ أنتم تعرفون أن عمر بن الخطاب تحدث بأمور نزل القرآن على وفق ما تحدث به، كقوله للرسول عليه الصلاة والسلام: [لو حجبت نساءك!] فأنزل الله آية الحجاب. وقوله: [لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى!] . إلى آخر ما قال. ومن هذا القبيل: ما رواه الإمام مالك في الموطأ بالسند الصحيح عن أبي بكر الصديق، أنه قال لابنته عائشة في أرض تتعلق بإرث أولاد أبي بكر رضي الله عنه قال -فيما أذكر الآن-: [إن هذه لأختك -والأخت كانت لا تزال جنينا في بطن زوج أبي بكر الصديق - قالت: وأين أختي؟ قال: هي التي في بطن فلانة] ، وفعلا رزقت زوجته بنتا، فكانت عائشة ترث مع أختها تلك الأرض بوصية من أبي بكر الصديق في هذا الإلهام.... فإذا عرفنا هذه الحقيقة، وهي: الفرق بين الوحي وبين الإلهام، يمكننا أن ندخل في صلب الإجابة. إذا كان هناك رجل عالم مثل ابن سيرين فسر الرؤيا التي قصها عليه قاص ما أو راء ما، فهو لا يستطيع أن يقول: إنها ستكون كذلك. إذا: فهذا ليس من باب الاطلاع على الغيب إطلاقا، وإنما هو الظن، والظن قد يصيب وقد يخطئ، وهذا يقع من العلماء في مناسبات كثيرة وكثيرة جدا، حتى إن بعض مشايخ الطرق يستغلون هذه الوقائع ويوهمون الناس أنها كشوفات، وأنهم يطلعون على ما في صدور الناس، والحقيقة أنها ليست شيئا من ذلك، وإنما هي الفراسة. إذا تبين أن ابن سيرين وأمثاله هم ممن قد وهبوا علم تأويل الرؤيا، فذلك ليس من باب الاطلاع على الغيب؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله بنص القرآن الكريم، ثم كما قال في القرآن الكريم أيضا: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول} [الجن:26-27] ، فالغيب هو الأمر الذي يقطع به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قد أوحى به إليه. أما العالم ذو الفراسة أو مفسر المنام، فهذا لم يطلع على الغيب، فقد يصيب وقد يخطئ. اهـ.
هذا؛ وننبه على أن الراجح الذي عليه جمهور العلماء هو أن الخضر نبي. وراجع الفتوى رقم: 37719.
والله أعلم.