السؤال
في سورة النساء قال الله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، كيف يكون التنازع بين الحاكم والمحكوم، ولا أقصد الخروج، إنما أقصد بقاء الحاكم، مع التنازع معه حتى يظهر الحق والصواب، بعد رده إلى الله والرسول، فحسب الآية التنازع جائز، ولكن كيف يكون ذلك، أقصد ما هي آلة النزاع، هل تدخل آلة النزاع في الحديث، أنتم أعلم بأمور دنياكم؟ فكما هو معلوم أن الخروج شر ظاهر، ومما هو غير معلوم أن الطاعة المطلقة شرها مخفي؟ وهذا من عندي؟ لماذا لا أجد ذكرا لآية التنازع عند أهل العلم؟ وهنا ليس موضع حديث النصح بالسر، فالتنازع فيه حركة، أرجو الإجابة والتعليق؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا إشكال في إمكانية تنازع الرعية مع أولي الأمر الذين هم الأمراء على أحد القولين، ولا يستلزم ذلك الخروج على أولي الأمر، ولا إحداث ما فيه فتنة، ولكن يذكر المحكوم ما يراه موافقا للشرع، ويعرضه على الإمام وولي الأمر، فإن خالفه كانوا جميعا مأمورين بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وقد كان هذا يحدث في الصدر الأول من آحاد الناس كما ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وآتيتم إحداهن قنطارا {النساء:20}، قال: عن الشعبي، عن مسروق، قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، ما إكثاركم في صدق النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم، فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم، قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا. الآية؟ قال: فقال: اللهم غفرا، كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل، إسناده جيد قوي. طريق أخرى: قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، عن قيس بن ربيع، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: وآتيتم إحداهن قنطارا- من ذهب- قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا، فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. انتهى
والقصص بهذا المعنى في تنازع الأمراء والرعية في بعض أحكام الشرع، وردهم ما تنازعوا فيه إلى الله بالرد إلى كتابه وإلى الرسول بالرد إلى سنته كثيرة جدا، وما توهمته من أن التنازع مستلزم لحركة تشبه الخروج أو نحو ذلك كلام غير صحيح ولا مسلم، فهؤلاء السلف نازعوا ولاتهم وأئمتهم في أمور مع اعتقاد إمامتهم ووجوب طاعتهم، وآلة التنازع هي البيان بالحكمة والموعظة الحسنة، إما بالخطاب المباشر مع ولي الأمر وإما بمكاتبته أو بغير ذلك، ولو استحدثت وسائل أخرى للمناصحة وبيان الآراء المختلفة لم يكن بذلك بأس، وكان ذلك داخلا في الحديث المشار إليه، ثم إن هذه الآية دليل على أن ولي الأمر لا يطاع في معصية الله، وأن طاعته إنما تكون في المعروف، على أن في أولي الأمر في الآية تفسيرا ثانيا وهو أن المراد بهم العلماء، واستظهر الألوسي حمل الخطاب في قوله: فإن تنازعتم.. الآية على العموم، ثم أورد على هذا إشكالا وأجاب عنه، وعبارته: "وقيل: المراد بهم أهل العلم، وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة، واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء: 83] فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام، وحمله كثير- وليس ببعيد- على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز، واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين فردوه فراجعوا فيه إلى الله أي إلى كتابه والرسول أي إلى سنته، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم. وجعل بعضهم: الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل، وقيل: على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء، ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى ، وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضا كرم الله تعالى وجهه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا قال: أوقدوا نارا فأوقدوا نارا قال: ألم يأمركم صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف . انتهى
فقد تبين لك أنه لا إشكال بحمد الله في الآية، ولا تعارض بين منع الخروج على الحكام وبين إمكان منازعتهم في بعض الأمور؛ طلبا للرد إلى الله وإلى الرسول.
والله أعلم.