السؤال
ما الذي كان بين الإمامين مسلم والبخاري، حتى لا يروي مسلم في صحيحه عن أحد.
وقال الذهبي: كان في مسلم خلق حاد، فانحرف عن البخاري.
وقالوا أيضا إنه انتقده في مقدمة صحيحه؟
وأصلا لا يوجد في تراجم الرجال ذكر لعلاقة بين مسلم والبخاري سوى قصة حديث كفارة المجلس، وإسناد القصة ضعيف.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ندري بالضبط ما يعنيه السائل، أو ما يشكل عليه، والظاهر أنه ينكر أن يكون هناك علاقة، أو مدارسة بين الإمامين البخاري ومسلم، حتى جازف فقال: (لا يوجد في تراجم الرجال ذكر لعلاقة بين مسلم والبخاري سوى قصة حديث كفارة المجلس، وإسناد القصة ضعيف) !!
وهذا لا يقوله عارف بسيرة الإمامين، ولا مطلع على كتب التراجم! فقد لازم الإمام مسلم شيخه البخاري فترة، واستفاد من علمه، وسعة اطلاعه.
قال الخطيب البغدادي في تاريخه: قفا مسلم طريق البخاري، ونظر في علمه، وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره، لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه. أخبرني محمد بن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال: سمعت أبا الحسن الدارقطني قال: "لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء". ... وكان مسلم أيضا يناضل عن البخاري، حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه. اهـ.
وأسند الخطيب في موضع آخر عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ قال: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي محمد بن إسماعيل البخاري، وهو يسأله سؤال الصبي المتعلم. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم: صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث. اهـ.
وأما قصة حديث كفارة المجلس، فهي صحيحة مشهورة، ولعل السائل أشكل عليه قول العراقي في (التقييد والإيضاح): وفي علوم الحديث أيضا عن البخاري في قصة مسلم مع البخاري، وسؤاله عن حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: "من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه" .. الحديث فقال البخاري: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد، إلا أنه معلول؛ حدثنا به موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله، قوله. قال البخاري: هذا أولى؛ فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماعا من سهيل. فقام إليه مسلم وقبيل يده. قلت -أي العراقي-: هكذا أعل الحاكم في علومه هذا الحديث بهذه الحكاية، والغالب على الظن عدم صحتها، وأنا أتهم بها أحمد بن حمدون القصار راويها عن مسلم؛ فقد تكلم فيه. وهذا الحديث قد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم، ويبعد أن البخاري يقول: إنه لا يعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، مع أنه قد ورد من حديث جماعة من الصحابة غير أبي هريرة ... اهـ.
وقد أوضح الحافظ ابن حجر وجه الصواب في ذلك في (النكت على كتاب ابن الصلاح) فقال: الحكاية صحيحة، قد رواها غير الحاكم على الصحة من غير نكارة، وكذا رواها البيهقي عن الحاكم على الصواب كما سنوضحه، لأن المنكر منها إنما هو قوله: "إن البخاري قال: لا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد المعلول"، والواقع أن في الباب عدة أحاديث لا يخفى مثلها على البخاري". والحق أن البخاري لم يعبر بهذه العبارة. وقد رأيت أن أسوق لفظ الحكاية من الطريق التي ذكرها الحاكم وضعفها الشيخ، ثم أسوقها من الطريق الأخرى الصحيحة التي لا مطعن ولا نكارة، ثم أبين حال الحديث ومن أعله، أو صححه لتتم الفائدة فأقول .... اهـ.
ثم فصل في ذلك تفصيلا حسنا، وبين أن البخاري إنما قال: "لا أعلم بهذا الإسناد" ولم يقل: "لا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد".
قال الحافظ: فقوله "لا أعلم بهذا الإسناد" لا اعتراض فيه، بخلاف تلك الرواية التي فيها "لا أعلم في الباب"، فإنه يتجه عليه ما اعترض به الشيخ من أن في الباب عدة أحاديث غير هذا الحديث ... فهذا اللفظ أولى بأن يعزى إلى البخاري من اللفظ المعزو له في كلام الحاكم في "علوم الحديث". اهـ.
والخلاصة أن هذه الحكاية صحيحة، ولكن باللفظ الذي ذكره ابن حجر. وراجع تفصيل ذلك بأسانيده وتفاصيله في كتاب النكت. وكذلك في مقدمة ابن حجر لفتح الباري (هدي الساري ص 488). وهي تبين مدى دقة البخاري -رحمه الله- في إعلال الحديث، وسعة اطلاعه على طرقه، واستفادة الإمام مسلم منه في ذلك.
وقال ابن العربي في (أحكام القرآن): أراد البخاري أن حديث عون بن عبد الله من قوله، حمله سهيل على هذا الحديث حين تغير حفظه بآخرة؛ فهذه معان لا يحسنها إلا العلماء بالحديث، فأما أهل الفقه فهم عنها بمعزل. اهـ.
وأما نقد الإمام مسلم لمذهب من يشترط ثبوت اللقيا في قبول عنعنة الثقة، وعدم الاكتفاء بالمعاصرة مع إمكان اللقيا، فهو مشهور ثابت في مقدمة صحيحه، ولكن وقع الخلاف فيمن أراده بهذا النقد الشديد لهذا القول، والحط على قائله، فقيل: أراد بذلك البخاري. وقيل: ابن المديني. وقيل: هما معا. وقيل: غيرهما دون تسميته. وراجع تفصيل ذلك في رسالة الماجستير للدكتور خالد بن منصور الدريس (موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين) فقد عقد فيه مبحثا بعنوان: (من الذي عناه مسلم بالرد عليه؟) (ص 301 : 313).
وممن أشار إلى إرادة الإمام مسلم للبخاري وابن المديني بهذا القول، الذهبي، حيث قال في ترجمة الإمام مسلم من سير أعلام النبلاء: ثم إن مسلما لحدة في خلقه، انحرف أيضا عن البخاري، ولم يذكر له حديثا، ولا سماه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روي عنه بصيغة "عن"، وادعى الإجماع في أن المعاصرة كافية، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلك، وإنما يقول ذلك أبوعبد الله البخاري، وشيخه علي بن المديني، وهو الأصوب الأقوى. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري في بيان المفاضلة بين صحيحي البخاري ومسلم: فهذه الأوجه الأربعة تتعلق بإتقان الرواة، وبقي ما يتعلق بالاتصال وهو الوجه الخامس، وذلك أن مسلما كان مذهبه على ما صرح به في مقدمة صحيحه، وبالغ في الرد على من خالفه: أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما، إلا إن كان المعنعن مدلسا. والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه وأكثر منه، حتى إنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة، إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئا معنعنا، وسترى ذلك واضحا في أماكنه إن شاء الله تعالى، وهذا مما ترجح به كتابه؛ لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال، فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال. اهـ.
والله أعلم.