نفقة الأقارب على المرأة بعد طلاقها واجبة وليس مجرد إحسان

0 184

السؤال

تقضي الزوجة عمرها في خدمة الزوج والأولاد، ولكن إذا طلقت بعد تجاوز الأولاد سن الحضانة، فإنها تصبح بلا مأوى. فهي إما أن تعيش ذليلة في بيت أبيها إن وجد، أو عالة على أخيها وأسرته إن كان لها أخ. أين الإنصاف الشرعي في ذلك؟ وهل من حق الزوج أن يعطي ماله لأخته المطلقة؟ ولا يساوي زوجته في ذلك المال على اعتبار أنه حر في ماله؛ بينما يرى أن حق الزوجة يقتصر على لقمتها في بيته كالجارية!! أين عدل الإسلام في ذلك؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فنرجو أن يكون سؤالك استفهاما لا اعتراضا، فالمؤمن لا يعترض على أحكام الشرع، بل يكون منه التسليم التام كما قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا {الأحزاب:36}، . وهو - أي المؤمن - يسلم بذلك لكونه يعتقد أن أحكامه سبحانه لا تصدر إلا عن علم تام وحكمة بالغة، ولذلك كانت أعدل الأحكام وأنصفها للخلق، قال سبحانه: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم {الأنعام:115}، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام.

وأما الاعتراض على هذه الأحكام فلا يصدر عمن آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه - وسلم نبيا رسولا، قال الله عز وجل: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {النساء:65}، فهو سبحانه لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، كما قال: أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب {الرعد:41}.

وأين وجدت في الشرع أن المرأة المطلقة - بعد طلاقها - وانتهاء علاقتها بزوجها تترك ذليلة لا مأوى لها ولا إعالة؟ فهي لها حقوق على زوجها تستحقها بعد طلاقها، وقد بيناها في الفتوى رقم: 128941.

وإذا انتهت العدة لم يجب على زوجها بعد ذلك أن ينفق عليها، فإن كانت غنية أنفقت على نفسها، وإن احتاجت فهنالك نفقة الأقارب، وهو حق لها واجب عليهم وليس منة، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك{ البقرة:233}: قيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور. وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره. وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وجمهور السلف. اهـ.

وهنالك أيضا بيت مال المسلمين تكون منه الرعاية الاجتماعية للمسلمين، بل ولغيرهم، وقد كان للإسلام قصب السبق في هذا النظام الاجتماعي الذي تفخر به الآن دول الغرب، فمن المسلمين تعلموا ذلك، قال أبو عبيد في كتاب الأموال: كتب عمر بن العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحميد إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال! فكتب إليه أن انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه، فكتب: إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه. اهـ. وهذا فيما يخص الشق الأول من السؤال.

وأما الشق الثاني فجوابه: أن مال الزوج ملك له يتصرف فيه بما يشاء من وجوه التصرف المشروعة، فيجب عليه أن يقوم أولا بما يجب عليه من نفقة الزوجة والأولاد، وله بعد ذلك أن يتبرع على من يشاء؛ فيصل به رحمه، ويساعد أقاربه، ونحو ذلك، ففي ذلك صلة للرحم، وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن سلمان بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"الصدقة على ذي القرابة اثنتان صدقة وصلة ".

ولا يصح ما ذكرت من القول بأن حق الزوجة يقتصر على لقمتها في بيته كالجارية، فمن أين لك ذلك ؟ فما ذكره الفقهاء هو أن نفقة الزوجة تكون حسب حالة الزوجة ويسار الزوج، وأنها إن كانت ممن تخدم في بيت أهلها يلزمه أن يوفر لها خادما، قال ابن قدامة في المغني: قال أصحابنا: ونفقتها معتبرة بحال الزوجين جميعا، فإن كانا موسرين فلها عليه نفقة الموسرين، وإن كانا معسرين فعليه نفقة المعسرين، وإن كانا متوسطين فلها عليه نفقة المتوسطين، وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فعليه نفقة المتوسطين أيهما كان الموسر. اهـ. وقال عند الكلام عن نفقة القريب: فإن احتاج إلى خادم فعليه إخدامه كما قلنا في الزوجة، لأن ذلك من تمام كفايته. اهـ.

 والحاصل هو أن للزوجة حقها في مال زوجها بقدر كفايتها كما بين ذلك الشرع، بل وأعطاها الحق في أخذه دون علمه إذا بخل به عليها كما في صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت هند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت من ماله وهو لا يعلم . فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. وما قد يعطيه لأخته ليس حقا واجبا عليه، فهو يعطيها متى شاء ويمنعها متى شاء، ولو أنه منعها لم يكن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه. وهذا يدل على تأكد الأمر في نفقة الزوجة، ومما يدل على ذلك أيضا أن نفقة الزوجة مقدمة على نفقة غيرها من الأقارب بمن فيهم الوالدان، فقد نص الفقهاء على ذلك ، قال البهوتي الحنبلي في كشاف القناع ممزوجا: فإن فضل عنه نفقة واحد فأكثر بدأ بامرأته ؛ لأنها واجبة على سبيل المعاوضة ؛ فقدمت على المواساة . اهـ. 
 والمقصود أن الشرع قد جعل الفضل للزوجة على غيرها من جهة النفقة، وجعلها حقا للزوج، فليست الزوجة بالمظلومة. فلا وجه لأن يقال أين عدل الإسلام في ذلك.

وبدلا من الاهتمام بمثل هذه الأسئلة خير للمرأة أن تصرف همتها إلى السؤال عما وراءه عمل، وعما يعينها على الفوز بالجنة، والنجاة من النار؛ لتكون من الفائزين يوم القيامة، قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور {آل عمران:185}.

ومما يلزم التنبيه عليه والتنبه له هنا هو أنه لا بد من التفريق بين الشرع وأحكامه العادلة قطعا، وبين الممارسة العملية الخاطئة الجائرة لبعض المسلمين - هداهم الله تعالى -  لهذه الأحكام، فلا يحمل الإسلام خطأ المخطئين الجائرين من أتباعه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة