السؤال
عطفا على سؤالي السابق حول نفس المسألة، والذي أجبتم عنه في الفتوى رقم: (341857) أما بعد؛ فما قصدته بقولي: "بعد العمل بالفتوى" أي "تقليد قول المفتي، ثم الرجوع عنه بعد العمل بالفتوى"؛ فقد علمت مؤخرا أن من قلد مجتهدا، فليس له أن يعدل عن رأيه إلى غيره في نفس النازلة بعينها؛ فينقض ما عمل به من قبل، وأن في المسألة خلافا بين أهل العلم.
فهل يجوز الأخذ بهذا الخلاف، وما هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة؟
نفع الله بكم، وبعلمكم، وجزاكم عن أمة الإسلام خير الجزاء.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه المسألة بالفعل محل خلاف، وتفصيل بين أهل العلم، وما حكي فيها من الإجماع إما أنه لا يصح، وإما أنه في حال معينة من أحوال المسألة، وهي حال الانتقال من مذهب لآخر بمجرد التشهي لتحصيل غرض دنيوي، بخلاف الرجوع لكونه يعتقد الرجحان أو الصحة، وموافقة الأدلة الشرعية. أو غير ذلك من الأحوال الخاصة.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي: قال الآمدي: إذا تبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث، وعمل بقوله فيها، اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره اهـ.
وقال ابن أمير الحاج الحلبي الحنفي: لا يرجع المقلد فيما قلد المجتهد فيه، أي عمل به اتفاقا. ذكره الآمدي وابن الحاجب، لكن قال الزركشي: وليس كما قالا، ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضا، وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته. اهـ. وممن قال بجواز الرجوع عن التقليد بعد العمل العز بن عبد السلام، وهو أيضا مقتضى كلام النووي.
قال ابن حجر الهيتمي الشافعي في الفتاوى الفقهية الكبرى: ويجوز الانتقال مطلقا، أفتى العز بن عبد السلام، وهو مقتضى كلام النووي، وقد صرح في مجموعه بأن ما شمله إطلاق الأصحاب في حكم المنقول، فلا يعتد بمخالفة بعضهم له، وتبعه على ذلك الإسنوي والولي العراقي والجلال البلقيني. ويؤيد ما مر من الإطلاق ما في الخادم عن القاضي أبي الطيب، من أنه هم بالتحرم فذرق عليه طير، فقال أنا حنبلي وأحرم، ومعلوم أنه كان يتجنب ذرق الطيور لنجاسته عنده. وفي المجموع: يسن لمن نسي النية في رمضان أن ينوي أول النهار لإجزائه عند أبي حنيفة، فيحتاط بالنية فنيته حينئذ تقليد له، وإلا كان متلبسا بعبادة فاسدة في اعتقاده وذلك حرام. اهــ.
وجاء في حاشية رد المحتار: وإما لو صلى يوما على مذهب، وأراد أن يصلي يوما آخر على غيره، فلا يمنع منه، على أن في دعوى الاتفاق نظرا، فقد حكي الخلاف، فيجوز اتباع القائل بالجواز، كذا أفاده العلامة الشرنبلالي في العقد الفريد.
ثم قال بعد ذكر فروع من أهل المذهب صريحة بالجواز، وكلام طويل: فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الانسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه، مقلدا فيه غير إمامه، مستجمعا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. انتهى.
وممن قال بعدم جواز تقليد عالم آخر في نفس المسألة بعد العمل بها، ابن ملا فروخ.
فقد قال في (القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد): ثم ظهر لي بعد مدة تسطيري هذه الأسطر، ظهورا بينا منكشفا لا ريب فيه، أن مرادهم من قولهم "لا تقليد بعد العمل" أنه إذا عمل مرة في مسألة بمذهب في طلاق، أو عتاق أو غيرها، واعتقده وأمضاه، ففارق الزوجة مثلا واجتنبها وعاملها معاملة من حرمت عليه واعتقد البينونة بينه وبينها بما جرى منه من اللفظ مثلا، فليس له أن يرجع عن ذلك، ويبطل ما أمضاه، ويعود إليها بتقليد ثانيا إماما غير الإمام الأول، فهذا معنى قولهم: "ليس له التقليد بعد العمل، ولا يرجع عما قلد فيه وعمل به" ونحو ذلك من العبارات، فأما إذا وقعت تلك الواقعة مرة ثانية مع امرأة أخرى، أو مع زواجها بنكاح جديد، فله الأخذ بقول إمام آخر ولا مانع منه. اهـ.
فهذه بعض أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
وأما رأي شيخ الإسلام ابن تيمية فيها.
فقد قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: من التزم مذهبا معينا، ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه؛ ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله؛ فإنه يكون متبعا لهواه، وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي؛ فهذا منكر...
وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما، ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار، فيعتقدها أنها حق له، ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة، أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد: أن الإخوة تقاسم الجد، فإذا صار جدا مع أخ، اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة، أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج, وحضور السماع، أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه، فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر.
فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشيء وحرمته، ووجوبه وسقوطه، بحسب هواه؛ هو مذموم بخروجه، خارج عن العدالة، وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز.
وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول، إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر، وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا, فهذا يجوز، بل يجب, وقد نص الإمام أحمد على ذلك. انتهى.
والله تعالى أعلم.