الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يشرح للحق صدرك، وأن يوفقك لأرشد أمرك. فإن ما ذكرته من استفسارات لا يستدعي أبدا -لا من قريب، ولا من بعيد- التشكك في الدين، أو حصول الريبة فيه، مما يهلك المرء، ويخسر به دنياه وأخراه!!
ولذلك فإن جواب أسئلتك -وإن كنا سنفعل- ليس هو الحل الأمثل، ولا المطلوب الأعظم لمن هو في مثل حالك، وإنما ذلك يتلخص في ثلاث كلمات: العلم النافع، والعمل الصالح، والصاحب الناصح.
أما العلم: فإنه يدفع عنك شر الشبهات، ويبصرك بأمور دينك، ويسلك بك سبيل اليقين. وأعظم العلم وأنفعه: القرآن المجيد، فعليك بتدبره، ومدارسته، وملازمته، فإنه مأدبة الله في أرضه، به يهتدي المهتدون، ويستنير السالكون، ويستقيم الصالحون.
وأما العمل الصالح، فإن فيه زكاة النفس وطهارتها، وبه يتقرب الموفقون من الله تعالى، الذي لا يأتي بالخير، ولا يدفع الضر إلا هو، والذي بفضله ورحمته اهتدى من اهتدى، واعتصم من اعتصم. وأعظم ذلك الصلاة فرضا ونفلا، والإكثار من ذكر الله نهارا وليلا، ومنه أيضا حسن الخلق مع الناس، وأداء الحقوق إلى أصحابها، وأعظم الناس حقا الوالدان إن وجدا، ثم الأقرب، فالأقرب.
وأما الصاحب الناصح، فهو الذي يدل على الخير ويرغب فيه، ويعين عليه، ويعرف الشر ويقبحه، وينهى ويرغب عنه، فهو نعم العون للإنسان على شياطين الإنس والجن، ولاسيما في أوقات المحن وأزمان الفتن.
وأما جواب ما سألت عنه، فالدلائل والبراهين على صحة الإسلام وأنه الدين الحق، قد سبق لنا بيان طرف منها في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 54711، 20984، 74500. كما سبق لنا بيان أن مصير الجن في الآخرة كمصير الإنس، فللصالح منهم نعيم الجنة، وللطالح منهم عذاب النار، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 18484.
وأما السؤال الثالث، فجوابه: أن أخذ الكتب باليمين أو الشمال وإن كان يدل على أصل النجاة أو الهلاك، إلا أن تفصيل ذلك وبيان أسبابه ومراتبه، والتمييز بين العباد في درجات النعيم ودركات الجحيم: لا يظهر إلا بوزن الأعمال وزنا دقيقا يظهر مثاقيل الذر من الخير والشر، كما قال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [الأنبياء: 47] وقال سبحانه: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [النساء: 40] وقال عز وجل: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 7، 8]. فبذلك تقوم حجة الله على عباده وتفلج، وتظهر مواقع عدله ومواضع فضله، مع ما في ذلك من حكم أخرى.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: إذا لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين. فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه. اهـ.
وقد تعددت نصوص أهل العلم في الإشارة إلى بعض هذه الحكم. فمن ذلك ما ذكره السفاريني في (لوامع الأنوار البهية) فقال: فإن قيل: ما الحكمة في الوزن، مع أن الله عالم بكل شيء، فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ أجاب الثعلبي بأن الحكمة في ذلك تعريف الله عبيده ما لهم عنده من الجزاء من خير أو شر. وقال العلامة الشيخ مرعي: بل الحكمة فيه إظهار العدل، وبيان الفضل، حيث إنه يزن مثقال الذرة من خير أو شر. اهـ.
وبين ذلك ابن الجوزي في (زاد المسير) فقال: فيه خمس حكم: إحداها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا. والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى. والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر. والرابعة: إقامة الحجة عليهم. والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم. اهـ.
وقال الواحدي في التفسير البسيط: قال ابن الأنباري: أكد الله به الاحتجاج على العباد، وقطع به عذرهم، وبين به لهم عدله، وأنه لا يظلم أحدا. اهـ.
وقال البرديسي في تكملة شرح الصدور: حكمة الوزن: ليبين ما يستحقه من العذاب، وما يكون فيه من درجات الجنة. اهـ.
والله أعلم.