الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الخطاب في الآية جاء بصيغة التثنية، فحمله كثير من أهل العلم على خطاب الثقلين: الجن والإنس معا، وحمله بعضهم على خطاب الإنس فقط، ولكنه جاء على ما عرف عند العرب من خطاب الواحد بخطاب المثنى، كما في قول امرئ القيس:
قفا نبك ...
وقول الشاعر:
فإن تزجراني بابن عفان أنزجر. . . وإن تدعاني أحم أنفا ممنعا.
ويدل لترجيح القول الأول، دخول الثقلين في كلمة الأنام، وتوجيه الخطاب إليهما صريحا، فيما سيأتي من قوله: سنفرغ لكم أيه الثقلان {الرحمن:31}، وقوله: يا معشر الجن والإنس {الرحمن:33}، وقوله: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران {الرحمن:35}.
فقد جاء في تفسير الطبري: فإن قال: لنا قائل: وكيف قيل: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فخاطب اثنين، وإنما ذكر في أول الكلام واحد، وهو الإنسان؟ قيل: عاد بالخطاب في قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) إلى الإنسان والجان، ويدل على أن ذلك كذلك، ما بعد هذا من الكلام، وهو قوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار).
وقد قيل: إنما جعل الكلام خطابا لاثنين، وقد ابتدئ الخبر عن واحد؛ لما قد جرى من فعل العرب، تفعل ذلك، وهو أن يخاطبوا الواحد بفعل الاثنين، فيقولون: خلياها يا غلام، وما أشبه ذلك، مما قد بيناه من كتابنا هذا في غير موضع. اهـ.
وفي تفسير القرطبي: قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) خطاب للإنس والجن؛ لأن الأنام واقع عليهما، وهذا قول الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي، وفيه: ( للجن أحسن منكم ردا). وقيل: لما قال: (خلق الإنسان)، (وخلق الجان) دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال: (سنفرغ لكم أيه الثقلان)، وهو خطاب للإنس والجن، وقد قال في هذه السورة: (يا معشر الجن والإنس).
وقال الجرجاني: خاطب الجن مع الإنس، وإن لم يتقدم للجن ذكر، كقوله تعالى: (حتى توارت بالحجاب)، وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس، خوطب الجنسان بهذه الآيات، وقيل: الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية، حسب ما تقدم من القول في (ألقيا في جهنم)، وكذلك قوله:
قفا نبك ...
فأما ما بعد (خلق الإنسان)، و(خلق الجان) فإنه خطاب للإنس والجن، والصحيح قول الجمهور. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير: قوله عز وجل: فبأي آلاء ربكما تكذبان. فإن قيل: كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان، ذكرهما الفراء:
أحدهما: أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين، كما بينا في قوله: ألقيا في جهنم.
والثاني: أن الذكر أريد به: الإنسان والجان، فجرى مجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها.
قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان، وتعليم البيان، وخلق الشمس والقمر، والسماء والأرض، خاطب الجن والإنس، فقال: فبأي آلاء ربكما تكذبان، أي: فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم. اهـ.
والله أعلم.