الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تعارض بين الحديثين، فالأول في شهوة الفرج، والثاني في شهوة المال: في العفة عن سؤال الناس، والتطلع إلى ما في أيديهم، كما يدل عليه سياق الحديث، فقد سأل ناس من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر. رواه البخاري ومسلم.
ولذلك أخرجه الأئمة في كتاب الزكاة، وبوب عليه البخاري: باب الاستعفاف عن المسألة ـ وكذلك فعل مسلم وأبو داود والنسائي والدارمي وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في شعب الإيمان، وبوب عليه الإمام مالك في كتاب الصدقة من موطئه: باب ما جاء في التعفف عن المسألة ـ وعلى ذلك مشى الشراح، قال القرطبي في المفهم: قوله: من يستعفف ـ أي: عن السؤال للخلق: يعفه الله ـ أي: يجازه فضيلة التعفف على استعفافه بصيانة وجهه ورفع فاقته. اهـ.
وقال ابن قرقول في مطالع الأنوار: أي: من يعف عن السؤال يعنه الله على ذلك، ويرزقه من حيث لا يحتسب. اهـ.
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: المعنى أن من يتكلف فعل ما يؤدي إليه اجتهاده ينعم الله عز وجل عليه بما لا يدخل تحت وسعه، واعلم أن مستعمل العفاف داخل في زمرة المعاملين لله عز وجل، فإن التعفف يوجب ستر الحال عن الخلق وإظهار الغنى لهم، فيصير معاملا في الباطن، ويقع له من الربح على قدر صبره وصدقه. اهـ.
وقال الباجي في المنتقى: يريد أنه من يمسك عن السؤال والإلحاح يعفه الله، أي يصنه الله عز وجل عن ذلك. اهـ.
وقال ابن الملك الكرماني في شرح المصابيح: يعني: من قنع بأدنى قوت وترك السؤال، يسهل عليه القناعة. اهـ.
وقال ابن الملقن في التوضيح: يعفه الله ـ أي: يرزقه ما يعفه إما المال أو القناعة. اهـ.
وعلى هذا درج قدماء الشراح، وكذا المعاصرون فقال السعدي في بهجة قلوب الأبرار: هاتان الجملتان متلازمتان... وذلك بأن يجاهد نفسه عن أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله... وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله، والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا. اهـ.
ولم نجد من الشراح من جرى في شرحه على معنى عفة الفرج إلا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ـ فقال في شرح رياض الصالحين: من يستعف عما حرم الله عليه من النساء يعفه الله عز وجل، والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة فإنه يهلك ـ والعياذ بالله ـ لأنه إذا أتبع نفسه هواها وصار يتتبع النساء، فإنه يهلك، تزني العين، تزني الأذن، تزني اليد، تزني الرجلان، ثم يزني الفرج، وهو الفاحشة والعياذ بالله. اهـ.
وقال في شرح بلوغ المرام: ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، يستعفف: يستغن، الفرق بينهما أن الاستعفاف: فيما يتعلق بالشهوة الجنسية، والاستغناء: فيما يتعلق بالمال، يعنى: من يستعفف عن المحرم سواء كان ذلك نظرا أو لمسا، أو قولا، أو فعلا، يريد به الزنا الأكبر، فمن استعف أعفه الله عز وجل، قال الله تعالى: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضلة {النور: 33} والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحا فليس عليهم جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن {النور: 60} فمن يستعفف يعفه الله أي: يعينه حتى يكون عفيفا بدون تكلف العفة، لأن تكلف العفة مأخوذ من قوله: من يستعفف، أما العفة التي تكون طبيعية فهي قوله: يعفه الله، ويحتمل أن يراد بقوله: يعفه الله، أي: يهيئ له ما يعفه من زوجة أو مملوكة يمين. اهـ.
وما جرى عليه جماعة الشراح هو الأصوب والأليق بسياق الحديث، وعليه فالعفة في هذا الحديث إنما هي عن سؤال الناس وطلب ما في أيديهم، وأما العفة عن شهوة فرج، فهي وإن تيسرت لكثير من الناس عن زنا الفرج، إلا زنا القلب بالتمني، وفعل الجوارح من العينين والأذنين واليدين والرجلين، لا يتحقق بالكامل في حق عامة البشر، والنادر لا حكم له وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: مدرك ذلك لا محالة ـ قال القاري في المرقاة: إن الله كتب، أي: أثبت في اللوح المحفوظ: على ابن آدم حظه ـ أي: نصيبه... والمراد من الحظ مقدمات الزنا من التمني، والتخطي، والتكلم لأجله، والنظر، واللمس، والتخلي، وقيل: أثبت فيه سببه، وهو الشهوة، والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين، والأذنين، والقلب، والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا، أو المعنى قدر في الأزل أن يجري عليه الزنا في الجملة... وقيل: معنى كتب أنه أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين وبما ركب فيهما من القوة الباصرة تجد لذة النظر، وعلى هذا، وليس المعنى أنه ألجأه إليه، وأجبره عليه، بل ركز في جبلته حب الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء، كذا قاله بعض الشراح، وقيل: هذا ليس على عمومه، فإن الخواص معصومون عن الزنا ومقدماته، ويحتمل أن يبقى على عمومه بأن يقال: كتب الله على كل فرد من بني آدم صدور نفس الزنا، فمن عصمه الله عنه بفضله صدر عنه من مقدماته الظاهرة، ومن عصمه بمزيد فضله ورحمته عن صدور مقدماته، وهم خواص عباده صدر عنه لا محالة بمقتضى الجبلة مقدماته الباطنة، وهي تمني النفس، واشتهاؤها اهـ، قلت: المراد بالمقدمات الباطنة الخواطر الذميمة التي هي غير اختيارية، ويؤيده قوله تعالى: ولقد همت به وهم بها {يوسف: 24}. انتهى.
وقال النووي في شرح مسلم: معنى الحديث: أن ابن آدم قدر عليه نصيب من الزنى، فمنهم من يكون زناه حقيقيا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازا بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنى وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يقبلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنى، أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنى المجازي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه معناه: أنه قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك. اهـ.
وذكر العراقي في طرح التثريب: قوله: كتب على ابن آدم نصيب من الزنى ـ أي قدر عليه نصيب من الزنى، فهو مدرك ذلك النصيب ومرتكب له بلا شك، لأن الأمور المقدرة لابد من وقوعها، فمنهم من يكون زناه حقيقيا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازيا، إما بالنظر إلى ما يحرم عليه النظر إليه، وإما بمحادثة الأجنبية في ذلك المعنى، وإما بالسماع إلى حديثها بشهوة، وإما بلمسها بشهوة، وإما بالمشي إلى الفاحشة، وإما بالتقبيل المحرم، وإما بالتمني بالقلب والتصميم على فعل الفاحشة، فكل هذه الأمور مقدمات للزنا ويطلق عليها اسم الزنى مجازا.. وفيه رد صريح على القدرية وبيان أن أفعال العباد ليست أنفا، بل هي مقدرة بتقدير العزيز العليم، وليس تقديرها حجة للعبد بل هو معاقب على كسبه ومثاب عليه. اهـ.
وقال ابن هبيرة في الإفصاح: معنى قوله: كتب، قدر، ولابد من إصابة ما جرى به القدر. اهـ.
وقال القرطبي في المفهم: أي قضاه وقدره، وهو نص في الرد على القدرية. اهـ.
ويؤيد هذا المعنى حديث: ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا. أورده الألباني في السلسلة الصحيحة: 2984، من روايات عدة، عن: ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص أو عن أبيه عمرو، وأبي هريرة، والحسن البصري مرسلا، ويحيى بن جعدة مرسلا.
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: قال عمر بن عبد العزيز في خطبته: من أحسن منكم، فليحمد الله، ومن أساء، فليستغفر الله، وليتب، فإنه لابد من أقوام من أن يعملوا أعمالا وظفها الله في رقابهم، وكتبها عليهم ـ وفي رواية أخرى أنه قال: أيها الناس من ألم بذنب، فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار عليها ـ ومعنى هذا أن العبد لابد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة ـ ولكن الله جعل للعبد مخرجا مما وقع فيه من الذنوب، ومحاه بالتوبة والاستغفار، فإن فعل فقد تخلص من شر الذنوب، وإن أصر على الذنب، هلك. اهـ.
والله أعلم.