السؤال
لماذا لم يفسر لنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وتركنا في حيرة من أمرنا، واختلاف كثير؟!
قد تقولون: إن هذه حكمة من الله، ليفسره أهل كل عصر حسب عصرهم، وما وصل إليه العلم مثلا. ولكن أسأل عن الأمور الأساسية.
ويقول أحدهم إن الاختلاف رحمة، وتخفيف وتيسير أن نأخذ برأي أحد المجتهدين عند الضرورة، ولكن عند الضرورة يباح المحظور ولا نحتاج لمفسر، أو لمختلف، فالأمر أصبح حلالا مباحا.
ومثلا كصفات الله عندما ضل فيها من ضل كالأشاعرة وغيرهم، لماذا رب العالمين لم ينزل نصا قاطعا يتعلق بصفاته، حيث كل من يطلب العلم يكون في سبيل الله، ومنهم من يوصله فهمه ﻷن يكون أشعريا أو معتزليا، وهذه هي قدرته وحدود فهمه.
لماذا تركنا الله لآراء العلماء، حيث إن آراءهم ليست حجة في نفسها؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن نبهنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يفسر للصحابة -رضي الله عنهم- كل كلمة، أو كل آية في القرآن على وجه الاستقصاء؛ لعدم حاجتهم إلى ذلك، إلا إنه صلى الله عليه وسلم فسر لهم ما كانوا يحتاجون إليه، أو يسألون عنه، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 50196، 71379، 14652.
وما ترتب من الخلاف بين الصحابة ومن بعدهم، على هذا المسلك النبوي في بيان معاني القرآن وأحكام الشريعة، لم يكن في الأصول، ولم يكن من الخلاف المذموم، بل كان من الخلاف السائغ المعتبر، في مسائل الفروع، وفي بعض الجزئيات التفصيلية اليسيرة في الأمور العلمية النظرية، كما سبق تفصيله في الفتوى رقم: 132935. وراجع للأهمية الفتوى رقم: 355837.
وليس من هذا الباب اختلاف الطوائف في صفات الله تعالى! فالخلاف بين مذهب أهل السنة والحديث، وبين مذهب الأشاعرة والمعتزلة، ليس من الخلاف السائغ، بل من الخلاف المذموم، وهو مع ذلك مسبوق بإجماع أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
قال ابن القطان الفاسي في (الإقناع في مسائل الإجماع): وأجمعوا أن لله يدين مبسوطتين. وأجمعوا أن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه من غير أن تكون جوارح. وأجمعوا أن يديه تعالى غير نعمتيه ... وأجمعوا أنه تعالى فوق سماواته. وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف نفسه، ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه، ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب، وترك التكييف له لازم. اهـ.
وهذا مأخوذ من رسالة أبي الحسن الأشعري إلى أهل الثغر بباب الأبواب، ومما زاده -رحمه الله - في رسالته هذه، قوله: وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض}. وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}. وقال: {الرحمن على العرش استوى}، وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر؛ لأنه عز وجل لم يزل مستوليا على كل شيء ... وأنه له عز وجل كرسيا دون العرش، وقد دل الله سبحانه على ذلك بقوله: {وسع كرسيه السماوات والأرض}، وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه.
الإجماع العاشر: وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه، ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه، ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب، وترك التكييف له لازم.
الإجماع الحادي عشر: وأجمعوا على أن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم، على ما أخبر به تعالى في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}. وقد بين معنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ودفع كل إشكال فيه بقوله للمؤمنين: "ترون ربكم عيانا". .. اهـ.
وإن أردت الوقوف على هذا الإجماع، ونقل أقوال الأئمة والعلماء مفصلة، فراجع كتاب: (المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع جمعا ودراسة) وهي عبارة عن ثلاث رسائل علمية، لثلاثة باحثين مجتمعين، بإشراف الأستاذ الدكتور عبد الله الدميجي، فالباب الثالث منه عن توحيد الأسماء والصفات (من ص 287: إلى ص 514).
وهننا ننبه على أن الاختلاف في هذا الباب لم يكن لعدم ورود النصوص الواضحة، وإنما كان لوجود الأهواء المضلة، واتباع مناهج الفلاسفة والمتكلمين! وإلا فمثلا قد قال الله تعالى لإبليس: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75] وقال سبحانه: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان [المائدة: 64]، وفي حديث الشفاعة المشهور: أنت آدم، أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه .. رواه البخاري ومسلم. وفي حديث محاجة آدم لموسى: قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه. متفق عليه. ومع ذلك أنكر من أنكر صفة اليدين لله تعالى أو تأولهما!! وأوضح من ذلك قوله عز وجل: وكلم الله موسى تكليما [النساء: 164] وقوله تعالى: ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [الأعراف: 143]، ومع ذلك أنكر ذلك من أنكره من أهل البدع، فقالوا: لم يكلم الله موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا!!!
والمقصود أن الخلاف لم يكن لعدم ورود النصوص، أو عدم وفائها بالمطلوب، وإنما كان لمخالفة سبيل المؤمنين، واتباع الأهواء والمناهج المحرفة.
وبهذا يعرف السائل الخلل في أصل إشكاله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك ما سماه السائل بالأمور الأساسية دون بيان، بل بينها وضبط أصولها، وأما ما عداها مما يسوغ الخلاف فيه ويعتبر، فالخلاف فيها يعد من التوسيع والتيسير والرحمة بالفعل! وقد سبق لنا بيان ذلك، وبيان الحكمة في اختلاف الأدلة الشرعية وتفاوتها في الظهور والدلالة، في جواب سؤال سابق للأخ السائل، في الفتوى رقم: 346519. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 120297، 260815.
وأما مسألة طاعة العلماء واتباع اجتهاداتهم، فراجع فيها مع ما سبق الفتويين: 155471، 135397.
والله أعلم.