السؤال
لدي سؤال في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال: إن وجدتم فلانا وفلانا، فأحرقوهما بالنار، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما، فاقتلوهما.
سؤالي هو: لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرقهما، ثم عدل عن ذلك؟ فبعض الكفار والملاحدة يقولون: إنه لو كان يوحى إليه لما عدل عن حكمه، ويذكرون أيضا قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} ويقولون: إن هذا الحدث فيه خلاف صريح للآية، وإن عدوله عن الحكم ينافي عصمته في أمور الدين؟ وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا -لرجلين من قريش سماهما- فأحرقوهما بالنار". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما، فاقتلوهما". رواه البخاري.
والذي يعرف معنى النسخ وصوره في الكتاب والسنة، لا يشكل عليه مثل هذا الحديث، ولا سيما إذا جمع إلى معرفة النسخ، معرفة أن للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها، فإن أصاب حكم الله، أقر على اجتهاده، وإن خالف حكم الله، نزل الوحي بتصويبه، فيؤول حكمه الشرعي كله إلى الحق الموافق للوحي، وهذا هو معنى العصمة، وراجع في تفصيل مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، الفتاوى التالية أرقامها: 3217، 177443، 198037.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق هذين الرجلين: منسوخ، سواء أكان الحكم الأول باجتهاده، أم بوحي سابق، وراجع في النسخ في السنة الفتويين: 100703، 168199.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في شرح الحديث السابق: فيه نسخ السنة بالسنة، وهو اتفاق ... وفيه جواز نسخ الحكم قبل العمل به، أو قبل التمكن من العمل به، وهو اتفاق إلا عن بعض المعتزلة فيما حكاه أبو بكر بن العربي. اهـ.
وقال العراقي في (طرح التثريب): هذه الأحاديث دالة أن ما كان هم به من التحريق، منسوخ بهذه الأحاديث. اهـ.
وقال القسطلاني في إرشاد الساري في شرح جملة: وإن النار لا يعذب بها إلا الله": خبر بمعنى النهي، وهو نسخ لأمره السابق. اهـ.
وقال ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: نسخ النبي صلى الله عليه وسلم أمره الأول بأمره الثاني، أمره الأول أن يحرقا، وأمره الثاني أن يقتلا. اهـ.
وهنا نود التنبيه على أمر مهم، وهو أن تعريض المرء نفسه للشبهات، باب مهلكة وضيعة، ولا سيما مع قلة العلم، وغياب الرفقة الصالحة الناصحة، فلا تعرض نفسك لما لا تطيق، ولا تتصدى للشبهات قبل أن تتأهل لذلك، واسمع لهذه الوصية النافعة، قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): قال لي شيخ الإسلام -رضي الله عنه- وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد-: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات -مثل السفنجة- فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها، ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه، صار مقرا للشبهات -أو كما قال-، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة؛ لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل ... انتهى.
والله أعلم.